الاثنين، 25 أبريل 2011

أثر دمنهور على المشروع الفكري و الإنتاج المعرفي للمسيري

بقلم - محمد مدحت:

حقيقة مؤكدة باتت إحدى المسلمات اليقينية لأي باحث منصف يحاول الولوج في المشروع الفكري للدكتور " عبد الوهاب المسيري " ؛ فهو لن يحتاج لكثير جهد كي يدرك اعتياد " المسيري " الدائم المستدام على استبطان دمنهور فكريا في كل نماذجه التفسيرية ، و كل مقولاته التحليلية . مع ملاحظة أن كل ارتباطاته بها ارتباطات فكرية ، و الرصد هنا للأفكار فقط . فمنذ بداية سيرته ( رحلتي الفكرية ) و هو يستبطن المدينة ، و باقي الإقليم لدرجة فاقت درجة كل بار بأمه و بأمته ؛ مما ينبئ بحقيقة كون شخصيته العلمية قد بنيت على أساس أصله في الإقليم ، و فرعه في السماء .

و من أمثلة ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
1. اعتماده نهاية كل مؤلفاته بذكر دمنهور :
و قد بلغت درجة تأثير مدينته – دمنهور – على مشروعه الفكري ؛ أنه كان يعتمد في نهاية كل مؤلفاته بالكامل – بما فيها الموسوعة – بذكر اسمه مذيل بالزمان ، و مذيل بالمكان بصيغة ( دمنهور – القاهرة في تاريخ ....... ) . و يعلم الله ثم الراسخون في معرفته أنه كان ليس له منزل أو مكتب أو حتى ركن صغير في دمنهور يمارس فيه الكتابة و التأليف منذ أن غادرها عند دخوله الجامعة ، و أشهد و يشهد معي أحد أهم أقربائه – ابن عمه الأستاذ عبد الله المسيري – أن زياراته لدمنهور كلها كانت زيارات عابرة ؛ مما يدعو لتساؤلات هامة تفرض نفسها ؛ و منها : هل كان الإقليم في عقله و قلبه – على حد تعبير أسرة فيلم ديوان المديرية – لهذه الدرجة ؟ ، و هل بلغ تأثره الفكري بالمدينة لهذا الحد ؟ أم أن في هذا الإقليم شيئا ما دعاه لهذا ؟ . لكن يبدو أن المسيري ( صاحب النزعة الطقوسية المعروفة ) لم يغادر دمنهور فكرا ؛ رغم مفارقته لها جسدا ، إلى أن جاءه اليقين فاستقر بها جسدا ( طيب الله ثراه ) .
2. التعريف الدائم بنفسه - فكريا - على أنه دمنهوري الهوية الفكرية :
بقوله عن نفسه باستمرار أنه : دمنهوري مصري عربي مسلم – خاصة – في المواقف الفكرية ؛ و من ذلك على سبيل المثال لا الحصر : ما قاله في امتحان الدكتوراه الذي نال عنه أعلى درجة تمنح في الولايات المتحدة (with Distinction ) : " طلب منى أن أضع وصفا لمقرر لدراسة تاريخ النظرية النقدية الأدبية و بطبيعة الحال كنت أعرف أنهم يريدونني أن أبدا بأرسطو أو أفلاطون و لكنني قررت أن أصدمهم فقلت : " الجرجاني " لأذكرهم بهويتي : دمنهوري مصري عربي مسلم يطل عليهم كأحد علماء الأنثربيولوجيا و يدرس حضارتهم دون أن يكون جزءا منهم " ثم يقول اعتزازا : " فلقد بينت لهم حدود معرفتهم و جهلهم تماما بخلفيتي الثقافية ".
3. تدشينه لمقولات تحليلية خاصة لدمنهور تميزها عن غيرها :
و قد وصل الأمر به أن دشن لمدينته الحبيبة كثيرا من المقولات التحليلية التي صكها تعبيرا عن نموذجها الإدراكي المكاني و الزماني مثل مقولة : " المقدرة غير العادية للدمنهوري على البقاء " ، و قد كرر هذه المقولة غير مرة . و مثال ذلك : ما واجهه من مشكلة في استيعاب اللغة الإنجليزية في الكلية و قوله في ذلك : " و بمقدرة الدمنهوري غير العادية على البقاء قررت التحرك بسرعة لأكتشف الآليات الجديدة المطلوبة لتحقيق البقاء و أهمها إجادة اللغة الإنجليزية فحبست نفسي في غرفة لمدة شهر كامل لا أسمع إلا الإذاعات المتحدثة بالإنجليزية و لا أقرأ سوى الجرائد والمجلات الإنجليزية و عدت بعد الفصل الدراسي الأول و قد تملكت ناصية اللغة بشكل أدهش أساتذتي " . و قد دشن مقولة أخرى و هي : " عزيمة الدمنهوري " ، و خاصة وقت الأزمات ، كأنما صنع الدمنهوري عنده لمواجهة الأزمات .
4. وصفه لعلاقته بماضي دمنهور و حاضرها بعلاقة علماء الاجتماع الألمان بماضي ألمانيا و حاضرها :
حيث يرى أن ظروف ألمانيا التي أنتجت " ماكس فيبر " و " ماركس " و " هربرت ماركوز " هي نفس ظروف دمنهور أبان نشأته فيها ، حيث يقول : " و أعتقد أن علاقتي بدمنهور بماضيها وحاضرها تشبه إلي حد كبير علاقة علماء علم الاجتماع بماضي ألمانيا و حاضرها . و لعلنا لو درسنا خلفية كثير من المثقفين المصريين ( و خصوصاً الثوريين ) فسنلاحظ أنهم عاشوا لحظات انتقال مثل هذه . و لعل هذا يفسر الخلفية الريفية لكثير من مثقفي مصر ممن أدوا دوراً في تاريخ مصر السياسي و الثقافي الحديث " . ، مما يدعونا لفهم إيماءاته على كون البيئة الفكرية بهذه البلدة لها عبقرية خاصة لإنتاج المثقفين ، و خاصة الثوريين منهم .
5. إقراره أن خلفيته الدمنهورية و البحراوية عمقت من نزعته النقدية للغرب العلماني :
حيث يقول عن ذلك : " و أعتقد أن هذا الجانب في خلفيتي الثقافية هو ما جعلني أحاول اكتشاف الأدبيات الاحتجاجية في التراث الغربي ، و هو ما جعلني لا أنبهر بالمجتمع الأمريكي ، فنقطتي المرجعية كانت دائماً هي المجتمع الزراعي التراحمي " .
6. عقده لمقارنة بحثية بين لندن و دمنهور في " ملحمة الفردوس المفقود " :
فقد بلغت دمنهور في تأثيرها الفكري عليه و على أدواته البحثية مبلغا لا ينافسها في ذلك أحد ، حتى أنه و هو في أثناء نقده لملحمة الفردوس المفقود الشهيرة عقد مقارنة بين لندن التي عاش فيها الشاعر الإنجليزي الكبير جون ملتون ( John Milton ) مؤلف الملحمة و دمنهور التي عاش هو فيها ، و قد كان رد فعل البروفسير جون ستبس ( John Stubbs ) أن أعطاه الدرجة النهائية العظمى ، بل و أخبره فيما بعد : " أنه لو كان بوسعه أن يعطيه أكثر من هذا لفعل إذ أن ما قاله المسيري كان جديدا تماما " .
7. استبطانه لدمنهور عند عقد مقارنة طريفة بينه و بين أرسطو لشرح فكرة العقل التوليدي .
و قد كانت مقارنة مازحة الهدف منها تعليمي ؛ إلا أنه استبطن دمنهور تفاخرا في ذلك ، و هو يبرر ذلك قائلا : " و كنت أحاول أن أنقل لطلبتي و طالباتي فكرة العقل التوليدي و مقدرته على الإبداع ( في مقابل العقل السلبي الفوتوغرافي المتلقي ) بطريقة درامية .
8. تصريحه بتعلمه مقولتي التراحم و التعاقد في دمنهور :
و ذلك حسب تصريحه : بأن مقولتي ( التراحم و التعاقد ) و التي تعد كل منهما أحد أهم المقولات الفلسفية في خطابه التحليلي التي يفسر بها قد تعلمها في دمنهور ، و هما المقولتان اللتان تفسران نمطي ( الجيزيلشافت Gesellescjaft ) و ( جماينشافت Gemeinschaft) عند علماء الاجتماع الألمان . لأنه وجد في دمنهور أن هناك حسابات أخرى غير مادية و غير أنانية تشكل مكوناً أساسيا في العلاقات بين الناس ، حتى في التجارة .
9. تصريحه بأثر المقارنة التي عقدها بين دمنهور و الإسكندرية في إدراكه لإشكالية التحيز المعرفي :
إن المتفهم لرحلة المسيري الفكرية ليدرك قدر قيمة أطروحة إشكالية التحيز في مشروع المسيري العلمي و المعرفي ، و هي الأطروحة التي استنفر لها أعداد من العلماء و المتخصصين و المفكرين و المهتمين بالثقافة شاركوا معه في صياغتها في سبعة أجزاء ، و هو يقر أن لدمنهور أثر في إدراكه لهذا البعد المعرفي .
10. تصريحه بأن أهم ابتكاراته في اكتشاف نموذج " الجماعة الوظيفية " يعود بالدرجة الأولى إلى نشأته في الإقليم :
و نموذج " الجماعة الوظيفية " أحد أهم المفاهيم التحليلية التي يستخدمها كنموذج تفسيري داخل موسوعة " اليهود و اليهودية و الصهيونية " . و هو يقرر أنه يعود بالدرجة الأولى إلى تجربته الحياتية في إدراكه للفرق بين التعاقد و التراحم في دمنهور ( فالجماعة الوظيفية جماعة تعاقدية لا تدخل في علاقة تراحمية مع المجتمع ) لأنها ليست منه . و يقول عن ذلك : " و قد لاحظت الفروق الواضحة بين البرجوازية الريفية و البرجوازية الحضرية ، مما جعلني أتوصل إلى أن موقع الإنسان الطبقي وحده لا يحدد موقفه ، و أن هناك عناصر غير اقتصادية ( مثل الانتماء و الثقافة ) تمتزج مع العناصر الاقتصادية ، بحيث لا يمكن فصل الواحد منها عن الآخر " .
11. مقارنته الذكية بين علاقة كل من اليهود و الدماهرة بالتاريخ داخل الموسوعة لدحض زعم اليهود بمعجزة البقاء اليهودي :
في إطار فخر اليهود ببقاء اليهود و اليهودية عبر الأزمان ، و إلى الآن ؛ يشرح المسيري – في الجزء الرابع من الموسوعة - جمود اليهود و اليهودية على تدين لا وجود له ، و يثبت لهم احتفاظهم بالشكل ، و ينفي عنهم تمسكهم بالمضمون ، و يقارنهم بتدين الدماهرة الذين هم أقدم - تاريخيا - من اليهود ، حيث نفى عن أهل دمنهور الجمود على شكل انتمائهم لحورس القديم ، و أثبت لهم دورانهم مع الحق المتجدد في ثباتهم على مضمون التوحيد لله عبر الأزمان ؛ فبقاء دمنهور حجة إلهية لدحض زعم اليهود بخرافة " معجزة البقاء " .
12. إقراره أن دمنهور سبب في تنبؤه بالانتفاضة الفلسطينية قبل وقوعها :
و ذلك في عام 1984 م داخل مقال بجريدة " الرياض " بعنوان " إلقاء الحجارة في الضفة الغربية " تنبأ فيها بالانتفاضة قبل وقوعها بأعوام ، و بأن استخدام الحجارة سيكون أحد أهم أشكال النضال الأساسية . ثم إقراره بأن هذا النموذج تكون عنده في دمنهور . و هناك من الشواهد الكثيرة التي تؤكد استفادة قيادة الانتفاضة من توقعه هذا ؛ مما ينقله من مربع التوقع و التنبؤ إلى موقع التحريض ، و قد كان .
13. حديثه عن أثر دمنهور في كونه باحثا مثابرا :
حيث يقول : " هذه النشأة جعلتني باحثا مثابرا ، ثم يستطرد قائلا : و عندما ذهبت إلى الولايات المتحدة ، و لم يكن عندي أي مصدر دخل إضافي لتغطية نفقاتي ، و لم يكن من الممكن تحويل أي أموال من مصر ، اضطررت للعمل خفيرا في مصنع في الولايات المتحدة ، و ما كان بوسعي أن أتحمل ذلك دون طريقة والدي في التنشئة " .
14. حديثه عن أثر دمنهور عليه في إيمانه بفكرة المجتمع و بالجماعية :
حيث يقول : " هناك جانب آخر تعلمته في صباي و جزء من شبابي في دمنهور هو الإيمان بفكرة المجتمع فالإنسان ليس فردا مطلقا بل من مجتمعه . السائد الآن أن كل مجتمع يتكون من أفراد ، و أن الفرد يسبق المجتمع . و لكني تعلمت في دمنهور أن المجتمع يسبق الفرد دون أن يلغيه ( فالمجتمع التقليدي زاخر بالشخصيات المتنوعة على عكس ما يتصور الكثيرون ) " .
15. إقراره أن اشتغاله بالعمل السياسي و إيجابيته للعمل العام تعلمهما في دمنهور :
فقد كون و أصدقاؤه من أبناء شارع الأنصاري بدمنهور جمعية سرية لمحاربة الإنجليز ، و هو في السابعة من عمره ؛ مما له دلالته أن ( لعب العيال ) عنده كان يأخذ هذا الشكل السياسي الوطني . و قد اشترك أيضا بحماسة بالغة في مظاهرات الطلبة ضد الملك فاروق في أوائل الخمسينيات عندما أقال وزارة الوفد التي ألغت معاهدة سنة 1936 ثم عين حافظ عفيفي رئيسا للديوان الملكي . كما شارك في مقاطعة البضائع الإنجليزية . كما شارك في إضرابات الطلبة ، و كان الشاعر الكبير "فتحي سعيد " رحمه الله من زعماء الطلبة في دمنهور الثانوية ، و عبر عن مواقفه السياسية في صغره ؛ فكان هناك مثلا يوم الشهداء و ذكرى وعد بلفور و ذكرى حادثة كوبري عباس ، و في عاما 1950 م و 1951 م شارك في التظاهرات الدائمة ضد الملك . و تأثير مدينة دمنهور في التنشئة السياسية على أبنائها تكلم عنه غير واحد من العظماء و المشاهير ؛ منهم على سبيل المثال : الإمام " حسن البنا " الذي استفاض – في سيرته الذاتية - عن الحديث عن الأثر السياسي لإقامته في دمنهور إبان دراسته في مدرسة المعلمين .
16. مقولاته المتعددة عن أثر مكتبة دمنهور في تكوينه :
حيث يقول عن سبب تألقه الفكري و العلمي : " و كان ذلك من تأثير زيارتي الأولى لمكتبة البلدية في دمنهور التي كانت بمثابة نقطة تحول في حياتي " ، كما قال : " و يمكن القول أنني دخلت مكتبة البلدية في دمنهور و لم أخرج منها حتى الآن " ، و مثل قوله : " أنها بالنسبة له تحوي كل المعرفة الإنسانية " ، و مثل قوله : " أن زيارتة للمكتبة كانت تشكل لحظة فارقة في حياته " . و المتابع لتأثير هذه المكتبة على كبار رجالات الفكر و الأدب في مصر و الوطن العربي ؛ لتتملكه الدهشة من بالغ تأثرهم بها ، و منهم على سبيل المثال لا الحصر : الشاعر الكبير " عبد الرحمن شكري " ، و الكاتب الجهبذ " كامل كيلاني " ، و الأديب الكبير خيري شلبي في مقالات عديدة و في رواية " وكالة عطية " ، و الأديب الكبير " سعد الدين وهبة " الذي أرخ لعلاقته بهذه المكتبة من بين كل المكتبات ، و كذا الأديب الكبير " يوسف القعيد " الذي شبه علاقته بهذه المكتبة بعلاقة الدكتور عبد الوهاب المسيري بها .
17. تصريحه بأثر مقهى الأستاذ عبد المعطي المسيري بدمنهور على تكوينه الإبداعي :
و قد بين أن نشأته جاءت من نسيج الجو العام لمقهى المسيري و الذي كان مكتظا بالمشاهير؛ حيث يقول : " و كان بيننا شاعر العامية حامد الأطمس و الشاعر فتحي سعيد - رحمهما الله - كما تعرفت على محمد صدقي كاتب القصة و عبد القادر حميدة و غيرهما . كان المقهى هو بيت الثقافة في دمنهور . و كان أمين يوسف غراب يتردد عليه و قيل لي أن يحيى حقي و محمد عبد الحليم عبد الله و غيرهما من المشاهير من أبناء البحيرة و ممن عملوا فيها كانوا من رواد هذا المقهى الأدبي " .
18. اهتمامه في الموسوعة ببيان نظرة اليهود إلى مدينة دمنهور التاريخية لوجود أبو حصيرة فيها :
حيث تتبع تاريخ " أبو حصيرة " ، و نفى العلاقة التاريخية بينه و بين مدينة " دمنهور " كموطن له .
19. إصراره على شرح أهم مميزات الدماهرة النابعة من تدينهم في تقديرهم للنعمة - الذي يفهم خطأ على أنه بخل – بتفسيره داخل نموذج التدوير الاقتصادي الحديث (recycling ) الذي يسميه ( الحس البيئي الدمنهوري ) عندما تبدد الموارد ، بل و يطرحه كنموذج عملي للتنمية :
فكما هو معلوم أن الرسول صلى الله عليه و سلم قد نهى عن الإسراف في استعمال الماء و لو في الوضوء ، و النظم الحديثة في المجتمعات الحديثة تدعو لما يسمى بـ " الاقتصاد " بل و تصنع له هيئات و وزارات ؛ بيد أن فضيلة الاقتصاد هذه متأصلة في جذور المجتمعات التقليدية و التي ينتمي إليها الإقليم ، و هو يقرر ذلك قائلا : " و المجتمع الدمنهوري – شأنه شأن المجتمعات التقليدية – يرفض التبديد و يقدر ( نعمة الله ) فإذا سرنا و وجدنا قطعة من الخبز كان علينا أن نلتقطها ، و بعضنا كان يقبلها ثلاث مرات ثم يضعها إلى جوار الحائط حتى لا يطأها أحد بقدميه . و كانت خبرات التدوير ( بالإنجليزية : ريسايكلنج recycling ) قويه للغاية في المجتمع ، فكان لا يلقى إلا بأقل القليل في سلال القمامة . أما بقيه الأشياء فكان يتم تدويرها : أوراق الجرائد – علب الأكل المحفوظ – قشر البطيخ و لبه – بقايا الطعام . كل شيء كان يمكن إعادة توظيفه " . بل و يدعو لممارسة هذا النموذج و يدعو لتطبيقه ، و مثال ذلك ما حدث له و هو مريض حيث يقول: " حينما دخلت المستشفى لإجراء عملية جراحية في عمودي الفقري فقد فوجئت بالقدر الكبير من الورد و الشيكولاتة ، و الذي يعبر عن حب أصدقائي و لكن حسي البيئي الدمنهوري استيقظ مرة أخرى و طلبت من مساعدي أن يتصل بأصدقائي ليخبرهم بمواعيد الزيارة و شروطها : ألا يحضر أحد وردا أو شيكولاتة و أن يعطى لأحد المساكين مالا و يطلب منه أن يدعو لي بالشفاء و قد امتثل بعض الأصدقاء لطلبي . كما كانت زوجتي تقوم بتوزيع الورد و الشيكولاتة التي جاءت إلي على الجميع خارج غرفتي " . و هذه المزية في المجتمع الدمنهوري قد بدأت تتلاشى أو تندثر بفعل التحديث و التنميط الذي تفرضه الصيغة الاستهلاكية الغربية على مصر، لأن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب ، و لا حول ولا قوة إلا بالله .
20. استدعاؤه للنموذج الإنساني الذي تعلمه في مسجد الحبشي بدمنهور عند مقابلته لمخترع القنبلة :
حيث قارن بين العلم النافع الذي تعلمه في مسجد الحبشي ، و العلم الذي لا ينفع الذي أخترعه " أوبنهايمر " .
21. تشكيله مع آخرين إتحادا لطلبة مدينة دمنهور في الولايات المتحدة :
و ذلك في ولاية منيسوتا عام 1966 م ، مع زميله ابن العائلة العريقة في دمنهور - عائلة اللبودي – و هو يقول معلقا على هذا الحدث : " و أدركت مدى قوة الانتماء للعائلة أو القبيلة أو المكان في المجتمع التقليدي " .
ثم أما بعد .. لقد بات مجزوما لدى وجدان الباحث وثوق الصلة بين المشروع الفكري للمسيري و بين بذوره في إقليم البحيرة . و هنا سؤال : هل ما فعله المسيري مع دمنهور، فعله من باب البر و فقط ؟ . أم أن بهذه المنطقة شيئا ما يجعلها تنتصب على كبد قوس الموارد البشرية لمصر كعاصمة ثقافية لها تمدها بثلة من العلماء و المفكرين كلهم يتسمون بنزعة التجديد – كما سنرى في الحلقات القادمة – و هل هذا مما جعل رجلا من خيرة علماء عصره – القرن الحادي عشر الهجري – كإبراهيم العبيدي ( صاحب أعلى الأسانيد القرآنية في مصر و الشام ) ، و هو حجة ثبت يكتب عن هذا الإقليم مؤلفا كبيرا يثبت فيه بالأدلة التي لا يعرف مثل هذا الرجل إلا القطعي منها ؛ كون إقليم البحيرة إقليما ديموغرافيا خاصا يحوي ثلة نادرة من الطاقات البشرية تسبح في بيئة ثقافية خاصة موروثة فيه منذ قدم التاريخ ، و ممتدة إلى ما شاء الله لها أن تكون ، و قد أسمى هذا الكتاب : " أدلة التسليم في فضل البحيرة على سائر الأقاليم " ؟ !! .
ما سبق يدعو الباحث إلى تبني مدخلا تاريخيا لمعرفة الثقافة الخاصة الموروثة في هذا الإقليم .. و عليه نبدأ في الحلقة القادمة بتتبع دور الإقليم في صناعة النسيج العالمي للحضارة الإنسانية . و بداية ذلك إثبات صحة النسب ما بين هرمس الحكيم - ابن دمنهور و الأشمونين – و هو ما يسمى في المصرية القديمة بـــ " الإله تحوت " و سيدنا إدريس عليه السلام .. فإلى لقاء .
( الحلقة القادمة : من هو هرمس الحكيم ؟ .. و ما هي الهرمسيات .. و ما هي العلاقة بين هرمس و كل الحضارات في كل العالم قديما و حديثا )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق