الثلاثاء، 26 أبريل 2011

في أن التقشف هو الحل

هل نستكثر على المصريين الذين تحدَّوا جبروت نظام مبارك حتى أسقطوه من عليائه، أن يقوموا بما عليهم إزاء مسؤولية بناء النظام الجديد؟


(1)


ما دعاني إلى طرح السؤال هو تلك الجولة التي يقوم بها في منطقة الخليج، رئيس وزراء الثورة المصرية الدكتور عصام شرف.

وكان قد سبقه إلى واشنطن وزير المالية الدكتور سمير رضوان، الذي ذهب مخاطبا صندوق النقد وآملا في تدخله لمساندة الوضع الاقتصادي المصري. وهى المهمة التي أحسب أن جولة رئيس الوزراء ليست بعيدة عنها.


إذن لست أخفي أن في نفسي شيئا إزاء الهدف من الزيارتين، هو في حده الأدنى شعور بعدم الارتياح المسكون بالاستياء. ذلك أنني ما تمنيت أن يعالج الأمر بهذه الصورة، التي تحضر فيها الحكومة ويغيب المجتمع، كما تبدو فيها مصر الثورة طالبة لا مطلوبة.


أدرى أننا بصدد أزمة اقتصادية لأسباب متوقعة ومفهومة. وذلك أمر لا مفاجأة أو غرابة فيه، علما بأن بعض الدول الأوروبية تواجه الآن أزمات اقتصادية تتفاوت درجاتها، من فرنسا وانجلترا إلى إسبانيا واليونان مثلا. وهى تتعامل معها بهدوء، وبغير ذعر أو ضجيج.


أضيف إلى ما سبق ثلاث ملاحظات من حيث الشكل على التحركات التي تقوم بها الحكومة في تعاملها مع المشهد الاقتصادي بعد الثورة هي:


* إن موقفها لا يتسم بالشفافية الكافية. وهذه ملاحظة الاقتصاديين الذين حدثتهم، ووجدت أنهم يدركون جيدا أن ثمة أزمة لكنهم لا يعرفون شيئا عن حقائقها. ولا ما إذا كانت قد بلغت مرحلة الخطر أم أنها في الحدود الآمنة.

صحيح أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة دعا إلى ندوة في 7/4 تم فيها عرض الموقف الاقتصادي من مختلف جوانبه، إلا أن أغلب حضور الندوة كانوا من الإعلاميين والسياسيين وأقلهم كانوا من الاقتصاديين.


* إن بعض الدول الخليجية التي زارها رئيس الوزراء لم تكن سعيدة ولا مرتاحة للثورة المصرية، حتى إن إحداها منعت إعطاء تأشيرات زيارة أو السماح بتعيينات جديدة لأبناء الدول التي شهدت ثورات أو انتفاضات مؤخرا، ومنها مصر. وهذه الخلفية تشكك في حماس تلك الدول للتفاعل مع المهمة التي يسعى رئيس الوزراء لإنجازها.


* إن لجوء الحكومة إلى مخاطبة الخارج ما كان له أن يتم إلا بعد استنفادها لوسائل التعامل مع الأزمة في الداخل.

في هذا الصدد أزعم أن ثمة استحقاقات داخلية أخرى لو تم الوفاء بها لكان موقف الحكومة المصرية أفضل في مخاطبة أي طرف خارجي.


(2)


لا أخفي أنني فيما عبرت عنه من مشاعر قلقة، انطلق من موقف شخصي يتحفظ على بعض الأطروحات التي تتردد في الساحة المصرية، في المقدمة منها ما يلي:


لدي تحفظ على المبالغة في الاهتمام بالسلطة مع تجاهل دور المجتمع، الذي تشكل عافيته خانة أساسية لاستقامة السلطة والحيلولة دون جنوحها.

وأستغرب مثلا انشغال وسائل الإعلام وإشغال الرأي العام بالتالي بالمرشحين لرئاسة الجمهورية دون أي ذكر للإعداد لانتخابات مجلس الشعب التي تسبق انتخابات الرئاسة. علما بأن الانتخابات البرلمانية تشكل أول خطوة باتجاه التمثيل الشعبي الحر وتأسيس النظام الديمقراطي الذي يتوق إليه المصريون.


لدى تحفظ أشد مقترن بالشك والارتياب إزاء الإلحاح على فكرة الدولة المدنية مع تجاهل وجود المجتمع المدني. وأستغرب الحملة الإعلامية التي يقودها مثقفون وسياسيون دفاعا عن لافتة تلك الدولة، دون أن يبذلوا أي جهد يذكر للدفاع عن المجتمع المدني ممثلا في المنظمات الأهلية التي تنشط في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. الخ. وكانت النتيجة أننا لم نشهد أي تطور لافت للنظر في محيط تلك المنظمات الأخيرة.


لدىّ تحفظ أيضا على فقدان الثقة بالناس والتهوين من قدرتهم على العطاء فضلا عن الابتكار والإبداع. ومما يثير الدهشة في هذا الصدد أننا خارجون من مشهد أثبت للقاصي والداني مدى قوة المجتمع وبأسه، وهو ما تجلى في خروج الملايين في أنحاء مصر وإصرارهم على إسقاط النظام وتحدى زبانيته بشجاعة نادرة. كأن الثورة أخرجت من الناس ما كان كامنا فيهم من عزم وشجاعة. وهو ما ينبغي أن يعزز ثقتنا في الجماهير العريضة، وما يستدعى سؤالا كبيرا هو: كيف يمكن استعادة تلك الروح واستثمار تلك الطاقة في بناء النظام الجديد، بعد نجاحها في هدم النظام القديم.


لأنني ممن يتمثلون الحديث النبوى الذي يقول إن اليد العليا خير من اليد السفلى. فإن لدي تحفظا على فكرة أن تكون مصر طالبة لا مطلوبة. حيث ليس سرا أن الذي يطلب يظل دائما في الموقف الأضعف.


أدرى أن الاقتراض من المؤسسات الدولية أو من المصارف أمر معمول به في كل مكان. لكن هناك فرقا بين أن تقترض بكرامة كما يفعل الجميع ثم تلتزم بالرد وأنت مرفوع الرأس وإذا عجزت عن الرد فلك أن تطلب مهلة للسداد، وبين أن تلتمس إسقاط الدين والإعفاء منه. ومثل ذلك الالتماس الذي قدمه وزير المالية المصري في زيارته الأخيرة إلى واشنطن يخصم من رصيد نظام ما بعد الثورة، وينال من صدقيته وكفاءته في إدارة البلد.


(3)


إذا لم نستسلم لمنطق التعويل على الحكومة وتجاهل المجتمع في مواجهة التحدي. فسنجد أن استحقاقات المواجهة تتوزع على الجانبين.


وقد رجعت فيما خص الحكومة إلى عدد من الخبراء وأهل النظر الذين وجدت أن لديهم كلاما كثيرا في الموضوع، وما أسجله هنا هو مجرد خلاصة وبعض العناوين التي يمكن الانطلاق منها إلى مناقشة موسعة.


إذ تحدثت في هذا الصدد إلى كل من: الدكتور كمال الجنزوري رئيس الوزراء الأسبق، والدكاترة والأساتذة حازم الببلاوي ومحمود عبدالفضيل وإبراهيم العيسوي وأشرف بدرالدين (الأخير كان عضوا بلجنة الخطة والمواطنة في مجلس الشعب).


وأثار انتباهي أن الاتفاق منعقد بينهم حول ثلاثة منطلقات أساسية هي:

ضرورة مصارحة الرأي العام بحقائق الوضع الاقتصادي

ــ أهمية إجراء حوار مع أهل الاختصاص للاتفاق على حلول للأزمة ووضع جدول ترتب فيه الآجال والأولويات

ــ عدم التردد في إعلان سياسة للتقشف تبدأ فيها الحكومة بنفسها بحيث تراجع باب المصروفات لاستبعاد كل ما لا لزوم له، خصوصا ما تعلق بالوجاهات وبذخ والسفرات والحفلات والإسراف في مكاتب التمثيل غير الدبلوماسي بالخارج.


وحين يتحقق ذلك. وتصبح الحكومة قدوة يضرب بها المثل في التقشف الذي يلمسه الناس، يكون لها بعد ذلك أن تطالبهم بشد الأحزمة والالتزام بذات النهج الذي ارتضته لنفسها.


أثار أولئك الخبراء نقطتين أخريين،

الأولى تتعلق بضرورة الحد من سفه الواردات التي أصبحت قوائمها تضم سلعا استفزازية لا حصر لها، لا يعقل أن يكون لها مكان في مجتمع يواجه أزمة.

الثانية تتصل بإيرادات الصناديق الخاصة التي أنشأتها بعض الوزارات والمؤسسات العامة، وقدرت حصيلتها في السنة المالية الأخيرة بنحو 21 مليار جنيه. وقد رأوا أنها تمثل رصيدا مهولا ينبغي أن يستثمر لصالح التنمية، ولا يترك نهبا للعابثين وأصحاب الأهواء في كل قطاع. حيث لا رقيب ولا حسيب.


لابد أن يكون لأهل الاقتصاد كلام أكثر وربما أفضل مما ذكرت. ولذلك لن أستطرد فيه لأن ما عندي بخصوص المجتمع يستحق أن نفكر فيه جيدا.


(4)


كنت قد وقعت على فتوى لإمام الحرمين عبدالملك الجويني في كتابه «غياث الأمم» قال فيها إن ولي الأمر إذا اعتزم أداء فريضة الحج، وأدى ذلك لتعطيل مصالح الخلق، فإن مراده يصبح «محرما على الحقيقة».


وحين قرأت أن حكومة الثورة بحاجة إلى سيولة تقدر بنحو 2 مليار دولار لتلبية احتياجات السنة المالية الحالية (حتى شهر يونيو المقبل)، ووجدت أن المصريين يدفعون المبلغ ذاته كل سنة تقريبا لأداء العمرة وفريضة الحج، توجهت بالسؤال التالي إلى الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين:


هل يجوز دعوة الراغبين في أداء العمرة أو الحج إلى توجيه المبالغ التي خصصوها لهذا الغرض لصالح صندوق يدعم اقتصاد البلد في الظروف الراهنة؟

وما مصير العمرة أو الحجة في هذه الحالة؟

وهل يدخل دعم اقتصاد البلد ضمن مصارف الزكاة التي يتعين على المسلمين الوفاء بها؟


هاتفيا وجهت إليه السؤال. وحين رد صغت إجابته وقرأتها عليه وأجازها. وكانت كالتالي:

إذا حل ظرف طارئ ببلاد المسلمين عانت فيه من الشح في الموارد المالية، فلولي الأمر أن يقيد العمرة لأنها نافلة وليست فرضا، ويسري ذلك أيضا على حج التطوع الذي يعد نافلة بدوره (المسلم مكلف بحجة واحدة وما زاد على ذلك عد نافلة).


والقيد هنا ينصب على الحالة التي يدفع فيها الراغب مالا للحج أو العمرة، ولا يشمل ما كان منها بالمجان. وإذا أودع المسلم حصته من المال في هذه الحالة بعد أن عقد نيته على السفر، فإن العمرة أو الحجة تحسب له.

أما توجيه الزكاة لصالح إنقاذ اقتصاد البلد المسلم أو حتى تنميته والوفاء بحقوق أهله فذلك مما يعد في سبيل الله، الأمر الذي يدخل ضمن المصارف الشرعية المعتبرة.


هذه الفتوى المهمة إذا توافقت عليها المؤسسات الدينية ومجمع البحوث الإسلامية في المقدمة منها، فإنها يمكن أن تشكل إسهاما إيجابيا في مواجهة الأزمة، فضلا عن أنها تضع أيدينا على باب لاستثمار الطاقات الإيمانية لصالح المجتمع، يخرجنا من دوامة الشائعات والتلويحات الفجة التي تروج لتنفير الناس من القيم الدينية أو محاولة تشويهها وتوظيفها لتفكيك المجتمع والوقيعة بين مكوناته المختلفة.


خارج هذه الدائرة فليت خطابنا الإعلامي المشغول بالماضي وبتتبع تفاصيل حياة أركان النظام السابق في معتقلهم بسجن طرة، يصرف بعض اهتمامه نحو هدفين هما


تعبئة الرأي العام لصالح إعادة تشغيل المصانع بطاقتها الطبيعية، بعد أن تراجعت إنتاجيتها بنسبة تجاوزت 40٪، إلى جانب تراجع إنتاجية العمال أنفسهم، الأمر الذي بات يهدد بعض المصانع بالإغلاق.


أما الأمر الثاني فهو ترشيد الاستهلاك الذي لم يعد يخضع لأي منطق في بعض الحالات. يكفي أن تعلم مثلا أن مصر أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم (تستورد سنويا 6 ملايين طن بما يعادل 2 مليار دولار).

وأن استهلاك المواطن المصري هو الأعلى أيضا في العالم، حيث تصل حصة الفرد إلى 130 كيلو جراما في العام، في حين أن المعدل في الدول النامية يتراوح بين 60 و70 كيلو جراما.

وثمة كلام كثير حول تسريب الدقيق المدعوم إلى السوق السوداء التي لم تنجح محاولات القضاء عليها إلى الآن، وحول استخدام الخبز كعلف للماشية.


تلك مجرد نماذج لما ينبغي أن يستنفر لأجله المجتمع قبل أي تحرك خارجي. هذا إذا كنا جادين في مواجهة التحدي ومطالبة الناس بربط الأحزمة والتقشف. وهى مسؤولية ينبغي أن ينهض بها المجتمع المدني، الذي نسيه مثقفوها الذين يصرون على استمرار إشغالنا بالحرب بين الدولة المدنية والدولة الدينية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق