الثلاثاء، 3 مايو 2011

استدعاء المجتمع واجب الوقت

رأينا الشعب المصري مستنفرا بكل قوته لهدم نظام مبارك، لكننا لم نلمس حضوره المرتجى في إقامة النظام الجديد، لذلك فإن استبعاد مبارك إذا لم يترتب عليه استدعاء المجتمع لكي ينهض بما عليه في إقامة النظام البديل، فمعنى ذلك أن الهدف الأهم لثورة 25 يناير لم يتحقق بعد.


(1)


قرأت في صحف الأسبوع الماضي أن نحو مليون ونصف المليون شخص تطوعوا للمشاركة في حملة لتنظيف مرافق مدينة موسكو، بزيادة قدرها 280 ألفا مقارنة بحملة مماثلة نظمت في العام الماضي، زرعت فيها 2300 شجرة وعشرة آلاف شجيرة. وتم إصلاح 9 آلاف متر من القار (الزفت).


ورسمت خطوط جديدة على طرق بطول 52 كيلو مترا و251 معبر مشاة. إلى جانب غسل واجهات 21 ألف مبنى، وحملات النظافة هذه تنظم سنويا في مختلف البلاد، حيث يتم تنظيف المدن وجمع القمامة وغسل الطرق، استعدادا لأعياد الربيع.


توازى ذلك مع حدث آخر له دلالته البالغة وقع في الهند. ذلك أن ناشطا عمره 73 عاما (كان جنديا متقاعدا) اسمه غانديان انا هازاري قاد حملة لمكافحة الفساد المستشري جذبت عشرات الألوف من الهنود من جميع أنحاء البلاد.


بدأت الحملة بإضراب مفتوح عن الطعام قام به هازاري، الذي طالب الحكومة بإعداد مشروع قانون لإنشاء مكتب المظالم الاتحادية تصوغه لجنة من المواطنين والسياسيين، على أن يعرض على البرلمان الهندي في أول جلسة له. وشاركته في إضرابه عن الطعام أعداد غفيرة من المواطنين من مختلف الشرائح الاجتماعية، وهؤلاء وقعوا على طلبات لدعم قضيته، حيث انضم إلى الحملة 4 ملايين شخص على المواقع الإعلامية، وتم إرسال أكثر من 40 مليون رسالة نصية دعما له.


تحدى الرجل الحكومة على أعلى مستوى، واتسع نطاق مؤيديه حتى أن كبار رجال العصابات في السجون تعهدوا برفض وجبات الطعام داخل السجن حتى تستجيب الحكومة لمطالب هازاري.


كان لصاحبنا سجله الحافل في محاولة مكافحة الفساد. وقد قام في السابق بعدة إضرابات عن الطعام لذات الغرض. ويعزى إليه الفضل في استقالة أربعة وزراء في حكومة ولاية مهاراشترا مسقط رأسه، وفصل أكثر من 400 موظف مدني في الحكومة اشتبه في تورطهم بقضايا فساد.


الحملة الأخيرة التي شنها هازاري استمرت مائة ساعة ظل الرجل خلالها مضربا عن الطعام، وقد شكلت ضغطا قويا على الحكومة اضطرها إلى الإعلان عن تشكيل لجنة من عشرة من الناشطين في المجتمع المدني، كان هو أحدهم، عهد إليها بصياغة مشروع مكافحة الفساد الجديد.


هذا الذي حدث في روسيا والهند له مثيله في الدول الديمقراطية التي يسمع فيها صوت المجتمع عاليا، بما يفتح الأبواب واسعة للمشاركات والمبادرات الشعبية التي باتت في بلادنا مجرد ومضات تلمع في الأفق تشكل استثناء على حالة السكون المجتمعي المخيمة.


(2)


قبل أيام قليلة (في 14/4) كتبت في زاويتي اليومية بصحيفة «الشروق» تعليقات تحت عنوان «في أن المصريين هم الحل»، تعرضت فيه لتجربتين لجهود التنمية الذاتية في قريتين مصريتين هما ميت حوامىي في محافظة الغربية وكفر العرب بمحافظة دمياط.


الناس في الأولى قرروا أن ينهضوا بالقرية ويتحملوا مسؤولية توفير خدمات تنميتها من جانبهم، وفي الثانية نجح الخبراء في تصنيع علف الماشية من البواقي الزراعية، التي توفر احتياجاتهم بما يغنيهم عن الاعتماد على العلف المستورد. وهي الخطوة التي أنقذت اقتصاد القرية من الانهيار، حيث اضطر أصحاب الماشية إلى التخلص منها بعد ارتفاع أسعار العلف، الأمر الذي هدد إنتاج القرية من الألبان والأجبان بالتوقف.


أردت بذلك الاستعراض أن ألفت الانتباه إلى بعض نماذج التنمية الذاتية التي يتعين التعويل عليها للنهوض بالمجتمع المصري، والتي تعتمد على الخبرات والخامات والأيدي العاملة المحلية لتشغيل دورة الإنتاج وإعادة الحيوية إلى القرى المصرية.


وما دفعني إلى التنويه إلى ذلك أنني شهدت مناقشة موسعة مع عدد من رجال الاقتصاد والسياسة حول الوضع الاقتصادي في مصر، ركزت فيه أغلب التعليقات على ضرورة توجيه الاهتمام إلى تشجيع السياحة والاستثمارات الأجنبية. لكنني قلت ما خلاصته إننا يجب أن نجذب الشعب المصري ونحوله إلى طاقة إنتاجية وفاعلة، قبل أن نتوجه إلى السياح أو الاستثمارات الأجنبية، راجيا أن نتحسس مواقع أقدامنا أولا قبل أن نمد أبصارنا بعيدا، ونحاول العبور إلى الشاطئ الآخر.


بعد ذلك بأيام قليلة، (يوم الثلاثاء الماضي 26/4) كتبت مقالا تحت عنوان «في أن التقشف هو الحل»، وكان ذلك بمناسبة سفر رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف في جولته الخليجية. التي تمت عقب زيارة قام بها وزير الاقتصاد المصري الدكتور سمير رضوان إلى واشنطن لمناقشة إمكانية إعفاء مصر من بعض الديون مع ممثلي صندوق النقد الدولي،


وفيما أعلن فإن موضوع الاستثمار في مصر كان من الموضوعات التي بحثها رئيس الوزراء أثناء جولته. وكنت قد تمنيت أن يتم التفكير في التعاطي المحلي مع الأزمة الاقتصادية، قبل اللجوء إلى العون الخارجي أيا كانت نوعيته. وفي هذا الصدد دعوت أولا إلى مصارحة الرأي العام بحقائق الوضع الاقتصادي الذي كان متدهورا قبل ثورة 25 يناير، ثم ازدادت أزمته وتعمقت بعد الثورة. كما دعوت ثانيا إلى إعلان إجراءات التقشف. تتحمل فيها السلطة مسؤوليتها في ظلها، بحيث ترشد إنفاقها وتضم الصناديق الخاصة إلى الموازنة العامة لكي تستعيد نحو 21 مليار دولار كانت نموذجا للمال السايب الذي يعلم الناس السرقة.


وبعد أن تقدم الحكومة النموذج وتضرب المثل في التقشف الذي تلجأ إليه أي دولة محترمة إذا ما واجهت أوضاعا اقتصادية متأزمة، كما هو الحاصل الآن في أوروبا. فلها بعد ذلك أن تدعو الجماهير لأن تحذو حذوها وتشد الأحزمة على البطون، وأشرت إلى أمرين محددين هما تعليق العمرة والحج المتكرر هذا العام (الذي يحمل الموازنة 2 مليار جنيه من العملات الصعبة سنويا) ــ وترشيد استهلاك القمح الذي تعد مصر أكبر مستورد له في العام، كما أن استهلاك المواطن المصري منه أعلى معدل في العالم أيضا (نصيب الفرد في مصر 130 كيلو جراما في العام بينما في الدول النامية يتراوح بين 60 و70 كيلو جراما).


(3)


لا أشك في أن أهل الاقتصاد والتخطيط لديهم الكثير الذي يمكن أن يطرحوه في هذا الصدد، سواء فيما خص تقشف الحكومة أو تقشف الجماهير وترشيد استهلاكها، لكن الأمر ليس سهلا، إذ تستطيع الحكومة بواسطة القرارات والإجراءات أن تتعامل مع خطتها للتقشف، لكن الأمر أكثر صعوبة فيما يتعلق بدور المجتمع لسبب جوهري يتمثل في تغييب قيمة المشاركة، وافتقاد المجتمع إلى الأوعية التي يمكن أن تستوعب طاقات الناس وتعبئها في الاتجاه الصحيح لبلوغ الهدف المنشود. وما أعنيه بالأوعية هو منظمات المجتمع المدني التي تبشر بالرسالة وتقنع الناس بجدواها، وتستنهض الهمم لصالح التنمية الذاتية أو التقشف.


جدير بالذكر في هذا الصدد أنه في غيبة السياسة ومصادرة المشاركة ــ قبل 25 يناير ــ كان جهاز أمن السلطة هو الذي يتحكم في مفاتيح العلاقة بين السلطة والمجتمع، وكان هناك كثيرون يقومون بما «يلزم» في التعامل مع أي مشكلة مجتمعية. إلى جانب أن الجهاز كان يداوم الاتصال بالأحزاب القائمة وقتذاك. وفي الوقت الراهن نلاحظ أن الشرطة العسكرية أصبحت تتحمل مسؤولية النهوض بما كان يقوم به جهاز أمن الدولة سابقا في هذا المجال.


حدث ذلك في مشكلة قنا، حيث خرج الناس للتظاهر في قلب المدينة ثم أوقفوا حركة القطارات المتجهة إلى جنوب الصعيد، الأمر الذي أصاب بالشلل حركة الاتصالات وفي جنوب الوادي. حدث ذلك أيضا في قرية «صول» بمحافظة الجيزة التي وقع فيها الاعتداء على الكنيسة. إذ في الحالتين قامت الشرطة العسكرية بالسيطرة على الموقف. كما أنها استدعت اثنين من رموز التيار السلفي لتهدئة الجماهير وامتصاص انفعالاتهم. وما كان مثيرا للانتباه أن الأحزاب الشرعية التي تشكلت في ظل النظام السابق غابت تماما عن المشهد، الأمر الذي بدا كاشفا لوزن تلك الأحزاب ومدى حضورها (غيابها إن شئت الدقة) في الشارع المصري.


لم تكن تلك هي الملاحظة الوحيدة، لأن الذين غابوا في هاتين الحالتين ظل حضورهم قويا على شاشات التلفزيون. الأمر الذي يسوغ لي أن أقول إن الأحزاب السياسية التقليدية في مصر هي في حقيقة الأمر ظاهرة تلفزيونية، أو ظاهرة صوتية كما يقال. رغم أن قادتها لا يكفون عن الصياح في كل مناسبة مطالبين بإثبات الحضور في المناسبات والوجاهات السياسية، وهذا الذي نقوله بخصوص الأحزاب السياسية يكاد يسري بذات القدر على النقابات المهنية والعمالية.


(4)


الأمر يبدو معقدا من هذه الزاوية. بمعنى أن استدعاء المجتمع وتفعيله لكي يقوم بدوره في بناء النظام الجديد يتطلب توافر حالة من التعبئة والاحتشاد تقودها مؤسسات المجتمع المدني. وتلك المؤسسات لا تشكل وتنتعش إلا في مناخ من الحرية والديمقراطية الذي، يوفر للجماهير فرصة الاجتماع والانتخاب الحرة ويكفل لها حقوق المشاركة والإبداع والمساءلة.


وهذه المؤسسات هي الرافعة التي لا غنى عنها في محاولة النهوض بالبلد وإقامة النظام الجديد على أسس راسخة وقوية. وهي الخلفية التي تقودنا إلى معادلة خلاصتها أن التنمية الاقتصادية لا تتحقق إلا في ظل تنمية سياسية ترسخ قيمة المشاركة في المجتمع.


إننا بحاجة لبذل جهد كبير لكي تحول جماهير ما بعد 25 يناير من رعايا إلى مواطنين ومن منتظرين إلى مشاركين ومبادرين

..................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق