السبت، 14 مايو 2011

الصورة التي أرعبت إسرائيل

الصورة التي أرعبت إسرائيل


كتب: محمد عمار
كانت علامات الفزع واضحةً على ملامح الحاخام الإسرائيلي وهو يعلق على صورة أكثر من مليوني مصري محتشدين في ميدان التحرير بعد الإطاحة بحكم مبارك، وهم يهتفون بصوت يهز الأرجاء (عالقدس رايحين..شهداء بالملايين).. قال الحاخام بقلق:حبل المشنقة يشتد أزيد فأزيد، لا تظنوا أن الثورات بعيدة عنا وأننا سنبقى نتفرج من بعيد..ثم تساءل: ماذا سنفعل إذا قررت الملايين أن تزحف إلى إسرائيل من مصر والضفة وكل مكان، رأيتم أن الجيش يعجز عن كبح أقل من نصف مليون، إذاً ماذا سنفعل في مواجهة الملايين؟

 بالتأكيد لم يغب عن بال هذا الحاخام أن دولته تملك أقوى ترسانة عسكرية في المنطقة تمكنها من هزيمة جيوش جرارة وهي مجتمعة، لكن هذه الترسانة لم تكن كافيةً لتطمينه، وهو يدرك يوماً بعد يوم أنه يعيش في وسط يموج بالاضطرابات ويحيط به بحر من الأعداء..

حال هذا الحاخام ليس سوى مثال معبر عن قطاع عريض من المجتمع الإسرائيلي الذي ينتابه شعور بالقلق العميق رغم كل ما توفره لهم الدولة من إمكانيات العيش الرغيد، وما تحصل عليه من دعم عسكري وسياسي من العالم، فهم يدركون أنهم يعيشون في وسط غير مستقر، وأن مشروعهم آخذ في الانحسار والتقلص..

هذا الشعور بالقلق تضاعف بعد اندلاع الثورات العربية، فالحواجز المادية التي كانت تحول دون المواجهة المباشرة بين الشعوب العربية وكيان الاحتلال تهاوت، وانهار الواقع المزيف الذي كان يصور العلاقة بين إسرائيل وبين هذه الدول بأنها علاقة سلام، وتبين أن هذه الشعوب تقف على فوهة بركان، وأن الهدوء الذي كان يبدو عليها هو هدوء خادع لا يعكس حقيقة الغليان في الصدور.

يحق لإسرائيل أن تشعر بالقلق العميق إزاء العواصف العاتية التي تضرب المنطقة من حولها عن اليمين وعن الشمال عزين، فهي لن تكون بمنأىً عن وصول هذه العواصف إلى قلبها، لأن الظروف الموضوعية التي أدت إلى انفجار الشعوب في وجوه حكامها، هي ذاتها الظروف التي تهيئ لانفجار هذه الشعوب مجتمعةً في وجه إسرائيل.فهي لا تزال في وعي الجماهير العربية العدو الأول الذي اغتصب الحقوق واحتل الأرض العربية ومارس كل جرائم الإرهاب.

وإذا كانت هذه القاعدة تنطبق على الشعوب العربية عامةً، فإنها أكثر ما تنطبق على الشعب المصري الذي تختزن ذاكرته التاريخية سجلاً حافلاً ضد إسرائيل التي سعت طيلة العقود السابقة بكل ما أوتيت من حيلة إلى إغراق مصر بالفساد وتآمرت على أمنها القومي، هذا عدا الثأر التاريخي لآلاف الشهداء المصريين الذين قتلتهم إسرائيل، والأسرى الذين دفنتهم وهم أحياء..

إسرائيل تدرك جيداً ما تختزنه نفوس الشعب المصري تجاهها، فطيلة ثلاثة عقود من اتفاقية كامب ديفيد لم يعقد نشاط تطبيعي واحد من قبل أبناء الشعب المصري معها، وقبل حوالي عام من الآن في غمرة استقرار حكم مبارك دخل صحافيان إسرائيليان القاهرة متخفيين لتنظيم استطلاع رأي ففوجئا بأن الأغلبية الساحقة من الشعب المصري لا تزال تنظر إلى إسرائيل بأنها العدو الأول وأن المواجهة معها مسألة وقت وحسب.  لذا لا غرابة أن يتسابق قادة الاحتلال للتباكي على زمان مبارك وإقامة مآتم الندب عليه، ووصفه بأنه كان كنزاً استراتيجياً لإسرائيل.

ولأن إسرائيل كانت تدرك خطورة انهيار حكم مبارك، فقد حاولت مستميتةً حتى اللحظة الأخيرة إنقاذه من السقوط، وهرعت إلى أمريكا تطالبها بالكف عن الضغط عليه، وحاولت تقوية موقفه الميداني بإرسال طائرتين من الرصاص والقنابل المسيلة للدموع لقمع المتظاهرين، لكن بعد أن وقع المحظور، وخسرت الكنز الاستراتيجي، فإن إسرائيل وفي محاولة طفولية أخذت تسلي نفسها بحجج متعددة منها أن هذه الثورات تثبت أن إسرائيل ليست هي المشكلة الأولى في العالم العربي، وإنما المشكلة هي أنظمة الاستبداد، وتارةً تسلي نفسها بأن مصر بحاجة إلى سنوات طويلة قبل التحول الديمقراطي، ومرةً أخرى بأن مصر مستنزفة في مشاكلها الداخلية ، وأنها ستظل مشغولةً  بذلك عن إسرائيل.

لكن هذه الحسابات أثبتت فشلها سريعاً بما يتناسب مع طبيعة المرحلة التاريخية التي نمر بها ذات الإيقاع المتسارع.. صحيح أن مصر لا تزال في مرحلة انتقالية، وأنها بحاجة إلى وقت للتعافي واستقرار الأوضاع، لكن يبدو أن قضية المواجهة مع إسرائيل بدرجة من التخمر والتوتر في الوعي المصري حتى أن الشارع المصري لا يطيق صبراً لينتظر أشهراً وسنوات حتى يفتح ملف المواجهة مع إسرائيل، بل إنه متعطش لاستعادة الإحساس بالكرامة التي أهدرت في الحقبة السابقة بسرعة، وهذا ما اتضح في المشهد التلفزيوني الذي أخاف الحاخام سابق الذكر، إذ أن هذا المشهد لم يكن إلا بعد أيام قليلة من سقوط مبارك فهتفت الملايين بأن الوجهة القادمة بعد إسقاط مبارك هي القدس.

ولم يقتصر الأمر على الهتاف وحده إذ سرعان ما ترجمت هذه المشاعر إلى خطوات عملية تمثلت في محاصرة السفارة الإسرائيلية والمطالبة بإسقاط كامب ديفيد وقطع الغاز عن إسرائيل، بل والمطالبة أيضاً بتحرير مدينة أم الرشراش المصرية التي احتلت عام 1949 وأطلق عليها الاحتلال اسم إيلات، وهدد بدو سيناء بأنهم سيحررونها بأنفسهم إن لم يحررها الجيش المصري.
هذا الحراك الشعبي المصري المطالب بفتح ملف المواجهة مع إسرائيل وصل إلى ذروته بالدعوة إلى انتفاضة ثالثة تزحف نحو الحدود مع فلسطين في الخامس عشر من مايو الجاري ذكرى اغتصاب فلسطين، ومن موافقات القدر أنه في هذا التاريخ من العام الماضي فقط هنأ الرئيس المخلوع حسني مبارك نظيره الإسرائيلي شمعون بيريس بمناسبة الذكرى الثانية والستين لإقامة دولتهم، وهي المناسبة التي تعني فلسطينياً النكبة والتهجير، في أجلى صورة لما وصلته حالة التردي في الحقبة السابقة، واليوم بعد مرور عام واحد  ينبعث الشعب المصري من جديد، وتجد هذه الدعوة رواجاً هائلاً، حتى أن تفاعل الشارع المصري مع هذه الدعوات قد فاق تفاعل كثير من اللاجئين الفلسطينيين الذين انطلقت هذه الدعوة أول ما انطلقت تحت عنوان عودتهم إلى وطنهم.

أمام هذا الحراك المتسارع فإن كل المؤشرات والدلائل تؤكد أن المواجهة بين الشعب المصري الأصيل الذين وصفهم الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم خير أجناد الأرض، وبين الاحتلال هي مسألة وقت، وأننا نقترب من اليوم الذي تحمل فيه مصر راية المعركة، وتعود القضية الفلسطينية إلى كونها قضية العرب والمسلمين جميعاً، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم..

لقد ذرفت دموع الفرح وأنا أسمع المصريين في قلب القاهرة يهتفون (يا فلسطيني يا فلسطيني..دمك دمي ودينك ديني)، وفتاة تصرخ في الجموع فتقول:(هم يظنون أننا سنظل ساكتين إلى الأبد على قتل إخواننا في غزة، ونحن نقول لهم:إننا سنحاسبكم على قتل إخواننا)، ورجل آخر يقول: (إن فاتورة الحساب بيننا وبين إسرائيل تزداد كل يوم منذ ثلاثين عاماً، وقد آن الأوان لسداد الفاتورة)

لقد بدأنا نشعر بالفخر ونحن نسترد شيئاً من كرامتنا المهدورة، وصار بمقدوري كفلسطيني أن أعتز بعمقي العربي والإسلامي، وأنني لست وحدي في الميدان، بل إنني جزء من أمة عظيمة صنعت أمجاد الماضي وهي على موعد قريب لتصنع أمجاد المستقبل إن شاء الله..
"والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق