السبت، 2 أبريل 2011

اختلفت معادن الرجال

صدق أو لا تصدق.

قدم رئيس ديوان المحاسبة استقالته من منصبه حين أدرك أن القصر يضغط عليه للتلاعب في تقرير أعده للبرلمان، وانتقد فيه صرف خمسة آلاف جنيه لأحد رجال الحاشية بغير مستندات.


أرجوك لا تتسرع في التفاؤل أو إحسان الظن واقرأ الحكاية أولا.


فالرجل الذي فعلها هو محمود «بك» محمد محمود، والقصة كلها وقعت في سنة 1950، وقد سجلها صاحبنا بخط يده في وثيقة من أربع صفحات تحتفظ بها مكتبة الإسكندرية، وخلاصتها كالتالي:


أبلغ محمود بك بأن الملك مستاء من «تلسين» رئيس ديوان المحاسبة عليه في عدة أمور، كان من بينها علاقة القصر ببعض الأنشطة والمشروعات مثل الضريبة على الإيراد العام ويخت المحروسة (الخاص بالملك) وشركة طيران سعيدة.


نفى رئيس الديوان الادعاء. وقال لفؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية، الذي نقل إليه الرسالة إنه لا يجد سببا لاستياء القصر سوى أمر آخر مختلف تماما، هو أن تقرير الديوان الذي كان تحت الطبع انتقد صرف مبلغ خمسة آلاف جنيه لكريم ثابت باشا ـ المستشار الصحفي للملك. من ميزانية مستشفى المواساة.


ذلك أن ممثلي ديوان المحاسبة استكثروا صرف المبلغ الكبير (آنذاك) للدعاية، خصوصا أنه لا توجد مستندات خاصة بمفردات المبلغ أو الأوجه التي أنفق فيها. وهو ما اعتبره الديوان مخالفة ما كان له أن يسكت عليها. أضاف محمود بك أنه لا يشك في أن كريم ثابت هو الذي أوغر صدر الملك عليه فافترى ما افتراه.


حينئذ ألح عليه فؤاد باشا أن يزور رئيس ديوان الملك، حسن باشا يوسف. وفي ذلك اللقاء طلب منه حسن باشا صورة مما تضمنه تقرير الديوان بخصوص واقعة صرف الخمسة آلاف جنيه،

ثم أضاف قائلا: إذا قدمت إليك المستندات الخاصة بصرف المبلغ، هل يوضح ذلك الأمر ويصبح الموضوع منتهيا؟

عندئذ رد محمود بك قائلا: إنه أبدى رأيه بخصوص الموضوع في التقرير المقدم إلى البرلمان، ومن ثم فتبرير ما جرى ينبغي أن يكون أمام البرلمان.

في اليوم التالي أبلغه حسن باشا يوسف بأن الملك تفهم الأمر وأدرك أن موقفه سليم، فشكره محمود بك على ذلك وقال إنه قرر الاستقالة من منصبه.


لكن حسن باشا ألح عليه أن يبقى، وفعل ذلك أيضا فؤاد باشا سراج الدين، ومصطفى النحاس باشا الذي قال له إن هناك أمورا تحتاج إلى بعض السرية، وأنه لا غضاضة في حذف ما ورد بشأن مستشفى المواساة من التقرير.


لكنه ـ محمود بك ـ تمسك بقرار الاستقالة، وقال للنحاس صراحة إنه لا يستطيع أن يستمر في منصبه لأنه لم يعد مطمئنا إلى أنه لن يطلب منه تغيير أو حذف أي شيء يسجله في التقرير.

أوراق محمود بك تحدثت عما هو أبعد من ذلك. إذ ذكر أنه في لقائه مع رئيس ديوان الملك تحدث عن تجاوزات مالية في وزارة الحربية بخصوص تجهيزات حملة فلسطين،

مضيفا أن بعض كبار موظفي وزارة الحربية يحاولون تنحيته عن منصبه بسبب هذا الموضوع. وفهمنا من تلك الأوراق أن تجاوزات أولئك الكبار في وزارة الحربية كانت من بين المخالفات التي تضمنها تقرير ديوان المحاسبة.

لم تمر استقالة محمود بك، لأن مصطفى بك مرعي عضو مجلس الشيوخ قدم استجوابا للحكومة في 8/5/1950 حول أسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة. وهاجم الحكومة بشدة بعدما ذكر أن التجاوزات المالية التي أثبتها تقرير الديوان وراء تلك الاستقالة. وبعيد ذلك غادر مصر إلى أوروبا بدعوى الاستشفاء.


المهم أن إثارة الموضوع أحدثت ضجة كبيرة في الأوساط السياسية لأنها استدعت ملف الأسلحة الفاسدة، وكانت تلك الأجواء هي التي وفرت مناخا مواتيا لتحرك الضباط وقيامهم بثورة 23 يوليو.

لقد رويت القصة بمناسبة ما أثير عن التعديلات التي ظل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات يدخلها على تقارير الجهاز لنحو 12 عاما لاستجلاب رضا الرئيس السابق والاحتفاظ بمنصبه، مما أسهم في استفحال الفساد الذي صرنا نصدم بما ينشر عنه هذه الأيام، لست آسيا على الزمن الذي مضى، لكنني أتحسر على اختلاف معادن الرجال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق