الأحد، 10 أبريل 2011

العبقرية الفكرية للأمكنة – إقليم البحيرة نموذجا: " أثر ثقافة المكان في رحلة المسيري الفكرية "

الحلقة الأولى : المقدمة :

لقد بات مؤكدا لدى كل من انتمى لعبد الوهاب المسيري سواء بالصحبة أو بالمعايشة أو حتى بالفكر؛ بالإدراك لحقيقة قطعية لا مجال لردها، تواترت بها كتاباته، و تأثر بها خطابه التحليلي، و هتف بها قولا، و تواصل معها عملا؛ ألا و هي حقيقة ارتباطه الوثيق بإقليم البحيرة عامة و بمدينة دمنهور خاصة .
حيث يقول : " كلما تعمقت في رؤيتي، و في حياتي أدركت مدى أثر دمنهور عليَّ و على نشأتي فيها؛ حيث أن الثلث الأول من رحلتي الفكرية هو حديث عن أثر دمنهور عليَّ، و لذلك في جميع كتبي أنهيها : دمنهور – القاهرة " .
و هذا الملمح في شخصيته الفكرية - من حيث ارتباطه ببذوره في دمنهور - تناولته أقلام و أقلام؛ و ذلك لصعوبة تجاوز هذا الملمح فيه، و منهم على سبيل المثال لا الحصر :
المفكر الفلسطيني المقيم في لندن الدكتور إبراهيم درويش في بحث كامل عن بذور و جذور المسيري، و قد أفرد فيه مساحة تحليلية و بحثية ليست بالصغيرة عن مدينة دمنهور من زاويا علم " الميثولوجيا " . و كذا المستشار الإعلامي لمكتبة الإسكندرية الدكتور : خالد عزب في معالجته لدمنهور من زاويا التاريخ و العمارة؛ راصدا أثر المدينة في شخصية المسيري، و تكوينه الثقافي، و كذا اعتزاز أبناء المدينة بماضيها، و كذا التحولات في المنظومة الفكرية للمدينة بخفوت الوهج الثقافي لها حاليا . و الكاتب و الروائي الكبير الأستاذ : خيري شلبي في رائعته عن المسيري المسماة : ( الهدهد، صورة شخصية )، معالجا الأثر الثقافي للإقليم على شخصية المسيري، و خاصة قهوة الأديب الكبير الأستاذ عبد المعطي المسيري . و الناقد السينمائي أسامة القفاش في مقالته النقدية عن المسيري . و أستاذ الفلسفة الحديثة و المعاصرة بجامعة القاهرة الدكتور : أحمد عبد الحليم عطية في بحثه المتخصص ( الأنت و الأنتي مودرنزم )؛ حيث يقول : " يواجهك المسيري بترسانة مفاهيمية هائلة متنوعة المصادر مستمدة من تيارات و مذاهب اجتماعية، فلسفية متعددة، و قد تكون متعارضة، أعيد تشكيلها لتتلاءم و المتلقي الذي يتعامل معها و قد وضعت عليها ( ماركة ) : صنع في ( دمنهور ) " . و الكاتب و الناقد المغربي الأستاذ : محمد همام و هو يقارن بين سيرته و سيرة عبد الرحمن بدوي الذاتية، عن طريق خطاب يوسف القعيد الفكري لها . و الإعلامية سوزان حرفي في مقدمتها لكتاب حوارات، حيث تسميه : " ابن دمنهور" ، كما أنها استفاضت معه في الأسئلة المتنوعة عن علاقته بالمدينة داخل الجزء الأول، و هو استفاض معها في الحديث عن المدينة و ما جاورها كلما سنحت الفرصة، و ذلك في كل أجزاء الكتاب . و الإعلامية المخرجة لمياء جودة في تتر النهاية للفيلم التسجيلي ( ديوان المديرية ) و الذي يؤرخ لرحلته الفكرية؛ حيث كتبت بالحرف : " توفى الدكتور عبد الوهاب المسيري في فجر يوم الخميس الثالث من شهر يوليو عام 2008 م ، و دفن في مقابر الأسرة في " دمنهور المدينة التي عشقها و كانت دائما في عقله و قلبه " " .
و قد لا أبلغ حدا من حدود غير المعقول، و لن تدركني المبالغة في التسليم بتأثير الإقليم على كل مشروعه الفكري، بل وصل به الأمر إلى جعله أحد أهم مسببات نماذجه الإدراكية كما سيتضح في هذه الدراسة .
و قد كان أكبر تصريح له بهذه الحقيقة هو عنوان كتابه العظيم الذي يحمل سيرته و مسيرته الفكرية الموسوم بـ " رحلتي الفكرية، في البذور و الجذور و الثمر "، و هو يعتبرها سيرة غير ذاتية غير موضوعية؛ و بشرح العنوان يبرز المقصود .
فهو يقصد بـ .. رحلتي الفكرية : أنه لا يتكلم عن رحلته من منظور اجتماعي اختزالا لكونه ابن أو أب أو حتى زوج، إنما يقرر الخوض فيها كمثقف عربي إسلامي، لا يتعامل معها إلا بمقدار تأثيرها في أفكاره . و يقصد بـ .. البذور : بذور تكوينه الفكري في إقليم البحيرة - و خاصة - مدينة دمنهور . و يقصد بـ .. الجذور : حياته الثقافية بأسرها . و يقصد بـ .. الثمر : أفكاره الأساسية أو إنتاجه الفكري من المؤلفات و المشاريع و الإبداعات، أو هي على المستوى الفلسفي ما يسمى ببنية النموذج .
فهو بالتالي يتعامل مع الإقليم عامة، و دمنهور خاصة على أنها أفكار لا أحداث، و لا يعتبرها مجرد مدينة عادية يتواصل معها من باب الصلة و البر و فقط؛ بل يعتبرها مدينة خاصة يتواصل معها من باب الفكر و العلم، و حديثه الدائم المستمر عنها من حيث تأثيرها الفكري عليه و على غيره؛ مما يدعونا لمعالجة علاقته بها بإلقاء الضوء عليها من زاوية الفكر؛ متجاوزين بذلك الأحداث و الأشخاص؛ برغم استئناسنا بذكرهما، لغرض الشرح و التحليل .
و قد كانت آخر زياراته ( يرحمه الله ) لدمنهور في 15 مارس 2008 م - أي قبل وفاته بأشهر قليلة – برفقة فريق عمل من قناة النيل للأخبار؛ لعمل فيلم تسجيلي عنه أذيع بعد موته، للمخرجة لمياء جودة . و من ضمن فقرات الفيلم صالون ثقافي؛ كانت قد جرت العادة أن يعقد في منزل ابن عمه الأستاذ عبد الله المسيري . و على هامش التصوير تحدث أحد مريديه و هو الناشط على الشبكة العنكبوتية المعروف " محمد حميدة " عن ظاهرة الإبداع الواضحة لأبناء إقليم البحيرة قديما و حديثا، و توجهت بدوري بسؤال مشمول ببعض المعلومات الإحصائية عن أعداد غفيرة من العلماء و المبدعين من أبناء الإقليم؛ كلهم يتسمون بنزعة التجديد، و كان السؤال هل من الممكن صياغة هذه المعلومات الهائلة داخل نموذج تفسيري للخريطة الإدراكية لأبناء تلك البلدة ؟ . فكأنما وجد ضالته، و طلب مني صياغة هذا في بحث أو مؤلف، و لما بدأ التصوير طلب من المخرجة إعادة السؤال لأنه جدير بالتسجيل؛ فهو يخص شيئا حبيبا لنفسه .
و ما يزال أحباؤه يطالبونني بذلك بعد موته - و مثل الدكتور عبد الوهاب لا يموت و إن كان تحت التراب - و لذا فقد جددت نيتي و عقدت عزمي على إتمام ذلك الأمر الآن؛ بأن أتتبع بذور رحلته الفكرية، و التي يقصد بها بذور تكوينه الأولى في " دمنهور " .
و لسوف نكتشف جميعا معا أمرا عجبا، منطوق هذا العجب يفوح بكون " دمنهور " ليست بذور رحلة المسيري الفكرية .. فقط .. و لكنها بذور الحضارة لكل العالمين .. !! .
و هذا الأمر الذي ظاهره فيه من المبالغة و كذا التعصب؛ لهو في باطنه الكثير من الموضوعية و الحياد؛ لكوني ألزمت قلمي في هذه السلسلة بالسير في طريق البحث العلمي؛ الذي سوف ألتزم به طول حلقاتها أيا ما بلغت ( و إن كنت أريدها سباعية تقليدا للفيلسوف الكبير يوسف زيدان في سباعياته الشهيرة ) .
و حقيقة كون " دمنهور " لها مثل هذه المكانة أمر ليس بغريب على مدينة تعد من أقدم مدن العالم – إن لم تكن أقدمها – و استمرت فيها الحياة بدون انقطاع منذ بدء الخليقة و حتى الآن . و لسوف نكتشف بأدوات البحث العلمي كونها مدينة ثالث الأنبياء بعد سيدنا " آدم " و سيدنا " شيث " عليهما السلام و أول رسل السماء سيدنا " إدريس " عليه السلام . و أن الإشعاع الحضاري فيها لم يخفت وهجه عبر التاريخ الإنساني كله .
و لعلي بهذا الجهد المتواضع أن أكون من المرابطين على ثغور مشروع الدكتور " عبد الوهاب المسيري " الفكري ، الذي هو و لا شك للمستقبل ؛ فاللهم تقبل .
كامل رحومة – في 9 ابريل 2011 م .
( الحلقة القادمة بعنوان : " عبق التاريخ في مدينة المسيري " )

المراجع:
ديوان المديرية، فيلم تسجيلي عن رحلة المسيري الفكرية، للمخرجة لمياء جودة، إنتاج قناة النيل للأخبار .
أي الأسطورة .
في عالم عبد الوهاب المسيري، حوار نقدي حضاري، ج 2، دار الشروق، القاهرة، ط 1، 2004 م، ص 229 .
المرجع السابق، ص 366، و كذا مجلة العربي الكويتية، العدد 618، مايو 2010، ص 36.
المرجع السابق، ص 390 .
المرجع السابق، ص 377 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق