السبت، 2 أبريل 2011

الاراده قبل القياده

يُحكى أنَّ رجلاً كان يبيع القماش , ويدور به على البيوت المختلفة , وفي ذات يوم وهو يعرض بضاعته لإحدى زبائنه , دخلت المرأة إلى داخل المنزل لتأتيه بالنقود , ثم استنجدت به , فدخل مسرعاً المنزل لنجدتها , فإذا بها توصد الباب غلقاً , وتقول له كما قالت امرأةُ العزيز ليوسُف , فإمتنع عنها ، فقالت له لو لم تفعل لصحت بك , وأخبرت الناس أنك هجمت عليّ , تريد فعل الفاحشة بي , فما كان منه إلا أن طلب منها أن تسمح له بأن يزيل عن نفسه آثار العرق , فيغتسل في دورة المياه , وليكن لها ما تشاء , فسمحت له بالدخول في دورة المياه , وبدلاً من أن يغتسل بالماء لطَّخ وجهه بغائطه . وخرج لها في منظرٍ قبيحٍ منفِّر , ورائحةٍ كريهة , فطردته من المنزل.
تقول القصة
أنه بمجرد خروج الرجل من المنزل تغيرت رائحة الغائط إلى رائحة مسكٍ يفوح منه ، بل ولازمته هذه الرائحة بعد ذلك طيلة حياته يلاحظها كل من يقابله , إلى أن لُقِّب بالرجل "المسكيّ" , وما زالت عائلته معروفة إلى اليوم.
إنَّ من موقف هذا الرجل عبراً ذهبية يمكن للمؤمن الحصيف إستنباطها والإستفادة منها; إلا أنّ أعمق ما بها والذي أريد إيصاله هي هذه الإرادة القوية التي تجسدت عند بائعٍ للقماش فأعطته عزيمةً فتيَّة تمنعه وتصده – برؤيةٍ واضحةٍ راسخة- عن الوقوع في المحرّم مهما كان سهلاً ميسوراً .. وكم من أناسٍ يعرفون المحرمات جيداً ويخافون الله ، ولكنهم ضعاف الإرادة , فسرعان ما يسقطون أمام الشهوة والإغراء ; وكم من أناسٍ يعرفون جيداً طريق الخير والصلاح , وأن الله أمر به وحضَّ عليه , ولكنهم لا يقوون على فعله لضعف إرادتهم.
إن الإرادة هي الطاقة والقوة التي بداخل الإنسان والمسئولة عن قيامه بأفعاله الاختيارية ، والتي أعطى الله سبحانه وتعالى له بها القدرة على الفعل والترك , ولولا وجود هذه القدرة والإرادة في الإنسان لما كلَّفه الله , ولذلك كان رفْع الله للتكليف عن المُكره والمُضطر وغير المُختار وفاقد القدرة.
الإرادة الطبيعية السليمة هي الإرادة التي تمكِّن صاحبها من تنفيذ جميع رغباته الممكنة كالصلاة في الجماعة, وقراءة القرآن، وطلب العلم, وبر الوالدين, والعمل والنجاح في الحياة ; وتستمر وتنمو لا يقفُ أمامها حائل فهي كالمارد العملاق الذي ينتظر أن تُفتح له الجَرَّة لينطلق هذا المارد ممتلكاً طاقاتٍ هائلة تجعل المرء يقهر بها أي مستحيلٍ ويسحقه بقدميه.

وعلى النقيض فالإرادة الضعيفة هي إرادة الشخص التي لا تمكنه من فعل أو ترك ما يريد, وقد يكون ذلك المراد في حدود طاقته البشرية , فتتحطم كثير من آماله وطموحاته بسبب ضعف إرادته .. يرغب في حفظ القرآن , فما هي إلا صفحاتٍ وينقطع ; يرغب في المواظبة على الصلاة في الجماعة , فما هي إلا أياماً ويقتطع ; يرغب في ترك المعاصي والمنكرات, فما هي إلا بضع مطباتٍ ولا يستطع ؛ .والأدهى هو نوعٌ آخر من الإرادة الضعيفة وهي المريضة بالاتجاه نحو الشر والمعصية أصلاً ; هي إرادة قوية , لكن وجَّهها صاحبُها نحو المعاصي والمنكرات وما لا فائدة فيه, تبدو قوية لنجاحها في فعل أمورٍ من المحرمات تحتاج إلى قوةُ إرادةٍ لإنجازها, لكن حقيقة الأمر أنها نجحت في الفشل , فكان نجاحها الباهر يعني الفشل الذريع ، فإنْ ودَّ صاحبها توجيهها للصواب قد لا تطاوعه لأنه ربَّاها ويربيها في الإتجاه الخطأ.

إنَّ الإرادة بمعناها الشامل الواسع إنِ إستقرت في النفس البشرية أعطت لها قوةً وثباتاً يمكِّنان لصاحبها من تحقيق ما يستحيل عليه أن يحققه بدونها ، فإن وضع هدفاً جعله نصب عينيه لا يفارقهما إلى أن يبلغه ، وإن عرف وسائله لغايته لن تحول بينه وبين تلك الوسائل العوائق مهما كانت فهو يسير غارساً هذا الهدف في وجدانه ، وإن صادف طريقه منحنىً أو حيْداً لن تقترب من عقله فكرة أن يحيد ويزيغ عما رسمه لذاته،، وليس هذا كلاماً نظرياً إنشائياً بقدر ما هو حقيقة راسخة واقعة ثابتة على مر التاريخ وإلى الآن.

إن طفلاً صغيراً من عائلةٍ غير مسلمة كان يقول لنفسه دائماً : "أستطيع أن أفعل أيَّ شيءٍ أضعُ تفكيري فيه" ولا زال يردد تلك العبارة حتى أصبح الآن صاحب أكبر ثروةٍ في العالم وهو بيل جيتس مؤسس ومالك شركة مايكروسوفت ; توماس أديسون فشل في دراسته صغيراً ثم فشل في أكثر من 9500 تجربة في حياته بعد ذلك إلى أن إخترع المصباح الكهربائي ; والت ديزني أفلس سبع مرات قبل أن يحقق حلمه.

لا بل نقتطف من درر عظمائنا الذين تملكت أنفسهم حقيقة هذا الدين العظيم فربطوا مُراد الدنيا بجزاء الآخرة فكانت الإرادة الفولاذية التي لا يتطرق إليها وهنٌ ولا ضعف فربحوا بها الداريْن ، عمر بن عبد العزيز كان يقول : "إنّ لي نفساً تواقة , تمنّت الإمارة فنالتها , وتمنّت الخلافة فنالتها وأنا الآن أتوق الجنة وأرجو أن أنالها" فكان خامس الراشدين ونحسبه رضي الله عنه الآن كما تمنى ; لم تُثني وطأة التعذيب وقساوة المحنة وخنوع الناس أحمد بن حنبل عن التمسك بعقيدته حتى أُطلق عليه إمام أئمة الإسلام فكان يوم مماته حزناً لجميع الطوائف وأسلم فيه نحو عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس ; أحمد الياسين الذي أصيب بالشلل الكامل بجميع أطرافه منذ صغره لكنه إمتلك الإرادة التي توزن بملايين الأصحاء وأسس بوطنه أكبر حركة مقاومة إستنفرت شعبه وأرهقت قوى المحتل وغيَّرت حسابات العالم وكان شيخ الشهداء وموقظ الأمة.

إن الإرادة الحقيقية لا تعني تجميع القوى فوق الطاقة، والشدّ على الأعصاب، والاندفاع حتى الإنهاك لإنجاز عمل ; فهذا فهم خاطئ تماماً ، إنما هي القدرة على القيام بالأعمال بقوَّةٍ ويُسرٍ وتوازنٍ ووضوحٍ وانسجامٍ ذهنيٍّ كاملٍ وهذا يأتي عند العمل في ظل وضوح الهدف وجلاء الغاية ؛ إنَّ ثبات بائع القماش كنموذج مصغَّر ، وإرادة العظماء على مر التاريخ كأمثلة حقيقية فاعلة ، يجب أن نستفيد من ذلك كأفراد ونتعلم منها : معنى السيادة على الذات والسيطرة الناضجة المتفحصة الهادئة على عواطفها وغرائزها ، معنى التحلي بروح التصميم دون ترددٍ أو إندفاع ، معنى المبادأة والإستعداد لجديد الأعمال دون تردد .. وهي صفات مطلوبة لصاحب الإرادة تنميها مرونة التفكير ورحابة الرؤية وسعة الأمل وقبل ذلك توازن الشخصية ووضوحها أمام نفسها
محمد مدحت عمار
مدير مدونة جيل النصر
راسلونا على hamadamedhat9@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق