السبت، 2 أبريل 2011

مشكله انهم لا يريدون ان يفهموا

حين يستمر توجيه رسائل الغضب من ميدان التحرير صباح كل يوم على مدى الأسبوعين الماضيين، ويتلقاها أهل السياسة في أرجاء الكرة الأرضية، باستثناء أولي الأمر في مصر، فلا يعني ذلك أنهم لم يفهموا، لكنه يعني أنهم لا يريدون أن يفهموا.
ــ1ــ
لست أشك في أنهم في مصر سمعوا بالموضوع، بدليل أنهم تحركوا وأجروا بعض التغييرات التي تدل على أنهم استلموا الرسالة. ووقفوا على موضوعها، لكن التجربة أثبتت أنهم أداروا ظهورهم لها وقرروا ألا يفهموها.
على الأقل فإنهم لم يقتنعوا بعد بأن مصر بعد 25 يناير أصبحت مختلفة عن مصر قبل ذلك التاريخ، وأن المجتمع المصري ولد من جديد، حقا وصدقا. الدليل على ذلك أن الخطاب الإعلامي الرسمى، ممثلا في قنوات التلفزيون والإذاعة والصحف القومية، ما زالت تتحدث بلغة مصر ما قبل 25 يناير، إذ تعامل مع ثورة الشباب وكأنها مظاهرة قام بها طلاب إحدى المدارس الثانوية.
وظل همه وشاغله طوال الوقت هو كيف يمكن أن يقدم شبابها بأنهم أقرب إلى تلاميذ فى «مدرسة المشاغبين» في المسرحية الشهيرة.
لم يأخذهم التلفزيون الرسمي المصري على محمل الجد، وليته وقف عند حدِّ الاستخفاف بهم، ولكنه ذهب إلى تعمد تشويههم والتحريض عليهم وتضليل المشاهدين بمختلف الحيل والأساليب لقطع الطريق على أي محاولة لفهم قضية المتظاهرين أو التعاطف معهم.
وفي المرات التي قدر لي أن أتابع خلالها بعض البرامج التي بثها التلفزيون خلال الأسبوعين الماضيين وجدتها تتحدث عنهم بحقد ومرارة وازدراء، حتى بدا أشد عليهم بأكثر من شدته على الإسرائيليين.
وإذا كان بعض رجال الأمن الذين تخفوا في ثياب مدنية وأقرانهم من البلطجية قد عمدوا إلى إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين فجر يوم الأربعاء الأسود، فإن التلفزيون المصري ما برح يطلق عليهم ذات الرصاصات طول الوقت.
ولم يكن ينقص موقف التلفزيون -لكى يتطابق مع ما حدث في ميدان التحرير- سوى أن يستجلب مجموعة من الخيول والجمال والبغال، لكي يطلقها بدوره على المتظاهرين. رغم أني لاحظت أن بعض مقدمي البرامج قاموا بالمهمة بجدارة عالية.
إن النظام المصري في إصراره على عدم فهم الرسالة قرأ سطورها مستخدما منظار ما قبل 25 يناير. أو هكذا بدا في خطابه السياسي والإعلامي على الأقل. من ثم فإنه اعتبر أن الشباب الذين خرجوا إلى ميدان التحرير في ذلك اليوم في تظاهرة سلمية أطهار ومخلصون وأبرياء، وأن خروجهم يومذاك كان مشروعا ومرحبا به من جانب النظام.
وادعى بعد ذلك أن جماعات لها أجنداتها الخاصة اختطفت الثورة منهم واستولت على الميدان، وراحت توجه التظاهرة وجهة أخرى مشبوهة وغير وطنية (مسؤول كبير فى الدولة قال هذا الكلام)، وأريد بهذه الخلاصة الإيحاء بأن السلطة التى رحبت بالمتظاهرين في البداية، كان عليها أن تتصدى لعملية الاختطاف لإجهاض المخططات المشبوهة وغير الوطنية التي حملها الخاطفون الوافدون.
ــ2ــ
بهذا التصور الساذج والمبتذل تعامل النظام مع المتظاهرين، وحاول أن يبرر أمام الرأي العام حملة تشويههم . وكانت رسالته أن الحملة لا تستهدف الأبرياء والمخلصين الذين خرجوا في البداية، ولكنها موجهة ضد أولئك الأشرار الذين اختطفوا التظاهرة واستغلوا البراءة لتحقيق أهدافهم المشبوهة.
إن منظار ما قبل 25 يناير لا يرى في مصر وطنيين محبين لبلدهم وغيورين على كرامته ومتشبثين بحلمه، ولكنه يقسم الناس قسمين،
أخيارا موالين للنظام وأشرارا يعارضونه.
وهؤلاء الأخيرون ليسوا مواطنين شرفاء أصحاب قضية، ولكنهم قلة مندسة وعملاء لجهات أجنبية وكائنات غريبة يخفي كل منهم في طيات ثيابه أجندة سرية.
نفس المنظار لم يمكن أهل السلطة من رؤية الحشود المليونية التى اجتمعت تحت راية الدعوة إلى الرحيل، كما أنهم صمُّوا آذانهم عن سماع شيء من هتافات الجماهير الهادرة. ولكنهم لم يروا غير عمليات النهب والسلب والحرائق التي اشتعلت والخراب الذي حل على أيدي المليشيات المحسوبة على النظام.
بالتالي فإن شاشات التلفزيون وصفحات الصحف الحكومية حفلت بالحديث عن الذين «اختطفوا ثورة الشباب البريء» وعن «العملاء» الذين تسللوا إلى البلد لإشعال الحرائق فيه.
وصرنا نقرأ كل يوم أخبارا مسرَّبة عن إلقاء القبض على فلسطينيين تابعين لحماس وإيرانيين وعناصر من حزب الله ووجوه لها سمات أفغانية، وأجانب آخرين من أصول مختلفة. وظل هدف البث هو إقناع المصريين بأن ما حدث في ميدان التحرير ليس ثورة شعب ولكنه مؤامرة دبرها أجانب، استهدفت أمن مصر واستقرارها.
هذا السيناريو الهابط الذي ينكر على المصريين وطنيتهم ويستكثر عليهم استعادتهم لكرامتهم لجأ أيضا إلى استخدام فزاعة الإخوان، التي ما برحت تلوح بها أبواق النظام في حديثها عن واقعة «الاختطاف».
وهي ذات الفزاعة التي أصبح يتكئ عليها في تبرير استمراره رغم سوءاته، بحجة أن البديل عنه (المتمثل في الإخوان) أسوأ وأخطر.
وقد سبق له استخدام الفزاعة ذاتها في تبرير عمليات القمع التي تعرض لها المعارضون عامة والإخوان خاصة، أثناء ما سمي بالحرب على الإرهاب.
ورغم أن أعدادا غير قليلة من المراقبين والصحفيين الغربيين أدركوا أن الإخوان موجودون حقا، ولكن الوجود الأكبر ظل للجماهير العريضة الموزعة على مختلف الاتجاهات، فضلا عن أن بينهم أعدادا كبيرة من الوطنيين العاديين الذين لا يصنفون ضمن أي فصيل سياسى.
أقول رغم ذلك فإن بعض كبار المسؤولين في السلطة وإلى جوارهم عدد من كتاب النظام وما لا حصر له من البرامج والحوارات التلفزيونية. لا يملون من ترديد الموال، ويتصورون أن الجمهور بدوره لا يزال مغيب الإدراك. كما كان في ما قبل 25 يناير، استخفافا بإدراكه وتهوينا من شأنه.
إن الذين وضعوا على أعينهم منظار ما قبل 25 يناير لم يروا وعيا مصريا ناضجا في مسيرات ميدان التحرير المليونية بالقاهرة. كما لم يروا الحماس الجارف في عيون مئات الألوف الذين رفعوا لافتات الرحيل في الإسكندرية والسويس وبورسعيد والزقازيق والمحلة والمنيا وغيرها من محافظات مصر، ولا رأوا الشوق إلى الخلاص في هتافات جموع المصريين الذين تجمعوا أمام السفارات المصرية في العواصم الغربية.
ذلك كله لم يكن مرصودا من جانب رجال السلطة لسبب جوهري هو أنهم لم يعتادوا قراءة الواقع المصري إلا من خلال التقارير الأمنية والوشايات المخابراتية، التي باتت تستسهل اعتبار الإخوان المسلمين مصدرا لكل الشرور في داخل مصر وخارجها.
ــ3ــ
لا تزال عقلية ما قبل 25 يناير ترفض الاعتراف بسقوط شرعية النظام الذي هيمن قبل ذلك التاريخ.
ومن المفارقات أن أهل تلك المرحلة الذين دأبوا على العبث بالدستور والتلاعب بنصوصه حتى جعلوه محل سخرية القاصي والداني، ولم يكفوا عن الازدراء بالقانون والدوس بأحذيتهم على أحكام القضاء،
هؤلاء هم أنفسهم الذين يتحدثون الآن بجرأة مدهشة عن ضرورة احترام الشرعية الدستورية ويتعلقون بأهداب نصوص أعدها «الترزية» المشهورون لكي تكون مضبوطة على القد والقياس.
لقد لجؤوا أكثر من مرة إلى تعديل الدستور استجابة لهوى السلطان، ونجحوا في تمرير التعديل من خلال مجلس مزور، ورئاسة متواطئة، ثم قالوا لنا إن هذه الشرعية، هو ما كان من قبيل الاستغفال الذي جسد ازدراء الرأي العام والاستخفاف به.
على مدار عدة سنوات كان الدستور يتحدث عن النظام الاشتراكي وقوى الشعب العاملة. وفي ظل ذلك الدستور تم الانفتاح وجرى الانتقال إلى النظام الرأسمالي الذي توحشت فيه الرأسمالية الجديدة.
وفي ظل الدستور الذي يمنع المسؤولين من البيع والشراء والاستئجار من الدولة، تم البيع والشراء وتم نهب الدولة. وفي ظله أيضا صدرت قائمة طويلة من الأحكام واجبة النفاذ، ولكن السلطة تجاهلتها وأهدرتها طول الوقت.
إذا كان ذلك قد حدث في الماضي، فلماذا الوقوف الآن أمام المطالب الشعبية تعللا بنصوص الدستور، إلا إذا كان ذلك لغرض مشكوك في براءته.
إن نية التفاعل مع المطلب الشعبي إذا توفرت، فإن لها سندا في المادة الثالثة من الدستور ذاته الذي يجري التلويح به الآن، وهي التي تنص على أن «السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها...»
وفي المادة ما يكفي للاستجابة لتلك الإرادة الشعبية الجامعة التي عبرت عنها الجماهير في وقفاتها المليونية.
من ناحية ثانية، فإن المشكلة الحقيقية تكمن في تكييف ما جرى في 25 يناير، ذلك أننا إذا اعتبرنا ذلك ثورة فإنها بذلك تكون قد اكتسبت شرعيتها منذ أعلنت سقوط النظام الذي سعت إلى تغييره.
ولها في هذه الحالة أن تصوغ شرعيتها المؤقتة في مرحلتها الجديدة، إلى أن ترتب أوضاع الشرعية الدائمة بناء على الدستور الذي تتوافق على إصداره،
أما إذا لم تعترف بأنها ثورة فإن ذلك له ترتيب آخر يخضع للأوضاع الراهنة، ويقودنا إلى المناقشات العقيمة الجارية.
ومن الواضح أن المحتشدين في ميدان التحرير، والملايين الذين أيدوهم وتضامنوا معهم يعتبرون أن ما حققوه ثورة تسعى إلى تنحية النظام القائم وإحلال نظام جديد مكانه، يستجيب لتطلعات الشعب المصري ويعيد إليه كرامته وكبرياءه.
بالمقابل فإن النظام القائم وبعض القوى السياسية المتحالفة أو المتواطئة معه لا ترى فيما جرى سوى أن غضبة شعبية أو انتفاضة مؤقتة أحدثت بعض الضجيج وقدرا من التنفيس، وبعدما أدت غرضها فإن كل شيء ينبغي أن يعود إلى سابق عهده، بعد إطلاق بعض الوعود الجذابة واتخاذ بعض الخطوات التجميلية. ويبدو أن الجهود التي تبدل خارج ميدان التحرير الآن منصبة على تثبيت الفكرة الأخيرة.
ــ4ــ
لأن ما جرى يوم 25 يناير مبهر للغاية، فإن ميدان التحرير خطف أبصارنا بقدر ما أن قلوبنا تعلقت به. وهو حدث مستحق لا ريب. لكن أحدا لم يلاحظ الروح الجديدة التي سرت نتيجة له في أنحاء مصر، ولا أقول في العالم العربي بأسره.
ولست أبالغ إذا قلت إن المواطن المصري يومذاك لم يسترد وعيه فقط، ولكنه استرد كرامته أيضا. وقد تلقيت رسالة بهذا المعنى من أحد الباحثين المصريين المقيمين في الولايات المتحدة عبر فيها عن ملاحظته أن زملاءه الأميركيين أصبحوا ينظرون إليه باحترام أثار انتباهه.
وإذا كان قد حدث في أقصى الأرض. فلك أن تتصور وضع المصري في العالم العربي، الذي ظل ينظر إليه طوال السنوات الماضية نظرة إشفاق ورثاء، بعد أن صغر حجمه وتراجعت مكانته بذات القدر الذي صغرت به مصر وتراجعت مكانتها.
حين عادت الروح إلى الشارع المصري، أصبح الناس أكثر تماسكا وسرت في أوساطهم ريح عطرة اجتاحت المرارات والإحن، وأرست أسس المودة والمحبة بينهم.
وحين خرج الشباب في مختلف الأحياء، فإنهم اكتشفوا أنفسهم وأقاموا فيما بينهم أواصر مودة لم يعرفوها من قبل.

إذ أدركوا أنهم لا يحرسون بيوتهم وأهاليهم فقط، ولكنهم يحرسون أيضا وطنا عزيزا يستحق أن يذودوا عنه.

أدرك الجميع أنهم استعادوا وطنهم ممن خطفوه ونهبوه فنسوا كل ما فرقهم واحتضنوه.
فقد ذابت الخلافات السياسية والعصبيات الدينية وصار الحفاظ على ذلك الإنجاز الرائع هو شاغلهم الأوحد.
لم نر اشتباكا بين مسلمين وأقباط ولا بين إسلاميين وعلمانيين، ولا بين الشرطة والأهالي.
حتى التحرش الذي تحول إلى ظاهرة في شوارع القاهرة وغيرها من المدن الكبرى اختفى ولم يعد له أثر.
واكتشفنا أن كل هؤلاء اجتمعوا في ميدان التحرير في تلاحم مدهش. لم يرتبه أحد ولا فضل فيه لأحد، وإنما كان احتضان الحلم هو الذي جمعهم، وظل أملهم في الانتقال إلى عصر ما بعد 25 يناير شاغلهم الأوحد وهدفهم الأسمى.
وتلك هي الرسالة التي رفض القائمون على الأمر أن يفهموا مغزاها وعجزوا عن إدراك معناها.
لذلك كان من الضروري أن يرحل ذلك العصر بكل رموزه، لكي يتحول الحلم المستعاد إلى حقيقة.
محمد مدحت عمار
مدير مدونة جيل النصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق