الأحد، 10 أبريل 2011

ما بين الثورة والجيش

ما بين الثورة والجيش
مَن شاهد الحشد الذى تجمع فى ميدان التحرير أمس الأول الجمعة، ومَن استمع إلى الهتافات، وعاين التنظيم، وقرأ اللافتات، ولاحظ الرشد والعزم الواضحين فى لغة المتظاهرين وحركتهم ومطالبهم، يعرف أن ثورة 25 يناير دخلت مرحلة النضوج.
لم يكن الحشد الذى شهده ميدان التحرير قبل يومين هو الأضخم منذ 25 يناير الماضى، ولا الأشد بلاء وصموداً وإصراراً ونبلاً، ولا الأصفى حكمة والأوضح بصيرة، ولا حتى الأكثر نقاء وطهراً وابتعاداً عن التلون والغرض الطائفى أو الفئوى، لكنه كان كافياً ليبعث لدى الجميع شعوراً بالاطمئنان على الثورة.
فى «جمعة التطهير» بات واضحاً أن الشعب الثائر، بقواه الحية المتفاعلة، قادر على توفير قوة الدفع الثورية اللازمة لإبقاء جذوة «25 يناير» متقدة، ولتلجيم محاولات الالتفاف على الثورة وتفريغها من مضمونها وإجهاضها، ولقطع الطريق على العابثين وراكبى الموجة، ولممارسة الضغط الملح المسؤول على سلطة الجيش، لإمدادها بالذرائع اللازمة لاتخاذ القرارات الصعبة.
كانت الثورة عارمة وجياشة ومصممة فى 11 فبراير الماضى، فأجبرت الجيش على الانضمام لها، حارساً وحامياً وضامناً، وظلت على فاعليتها وانتباهها وحرصها على الاستدامة وحماية المكتسبات، فضمنت بقاء الجيش فى دوره الأصيل. وألحت الثورة، جمعة وراء جمعة، عبر الحشد والمطالبة الدؤوب الواعية، لاستكمال تحقيق الأهداف، فلم تدع ثغرة ينفذ منها سوء الظن أو الفتنة، إلى ما يعكر علاقتها المقدسة بالقوات المسلحة.
يبقى الجيش مفوضاً بسلطة الجماهير، ومسؤولاً عن تحقيق أمانيها العاقلة الراشدة الطموح والواقعية والعادلة فى آن، وتبقى الثورة قادرة على الاستمرار، والمحافظة على الزخم الثورى، والدفاع عن المكتسبات، وتحقيق المزيد من الأهداف، وحماية نفسها، وصيانة العلاقة مع الجيش.
ربما لا يعلم كثيرون أن انكسار الجيش أمام الغزو كان أحد أهم أسباب تفتت الدولة فى العراق، وضعفه وتهميشه كانا سبباً فى الافتئات على السيادة الوطنية فى لبنان، وانهياره وتشظيه كانا سبباً فى الحرب الأهلية فى الصومال، وسيكون توجيه مدافعه نحو شعبه سبباً فى انقسام ليبيا.
يعنى كسر وحدة الجيش، فى أى بلد، كسراً للإرادة الوطنية وتعريضاً بالسيادة، ويعنى المس بهيبته وخدش سمعته استفزازاً له وتضييقاً للخناق عليه، ويعنى جره إلى المنازلات الصغيرة والمشاحنات الفئوية والطائفية استنزافاً لطاقته وصبره، ويعنى بقاؤه طويلاً خارج إطاره الطبيعى ومساق عمله الأصلى، إغراء له بالخطأ، وتشجيعاً له على استمراء السياسة، والانتشاء بالأضواء.
لم يأت الجيش من عالم ملون بعيد ليحقق مطالب الثوار طلباً طلباً، ولينقض على النظام المخلوع، فيحاكم أركانه، ويضعهم بالسجون، ويسترد الأموال التى نهبوها، ويعيدها إلى خزينة الدولة، ثم يسلم زمام الأمور لسلطة مدنية منتخبة، ويعود إلى ثكناته راضياً من دون حتى أن ينظر وراءه ليسمع كلمات الاستحسان والشكر.
لكن الجيش أتى من موقعه على يسار النظام، مدفوعاً بضغط الثورة الملح، وتقدير صائب لمحدودية قدرة السيف فى مواجهة الدم، وتقييم موضوعى لانحسار فرص النظام فى الاستمرار ونضوب طاقته على الصمود والبقاء.
أتى الجيش لا لينفذ مطالب الثوار حرفاً حرفاً، ولا لينتقم من النظام «البائد»، وقد كان جزءاً منه وأحد خياراته، ولا ليقود البلاد إلى التقدم والعدالة والديمقراطية والرخاء، ولكنه جاء ليحافظ على بقائه موحداً قادراً، ويحافظ على أمن البلد وسيادته، ويحافظ على «المؤسسة» أو ما بقى منها، وليسلم زمام الأمور لسلطة «وطنية شرعية مقبولة»، تحفظ للبلاد وحدتها وأمنها، وللدولة بقاءها، وله دوره وفضله ومزاياه وحظوظه.
من هنا يمكن فهم الكثير مما جرى خلال الأسابيع الفائتة، مثل: التباطؤ فى تغيير أصحاب المناصب المحسوبين على النظام السابق، والتلكؤ فى منع بعض السارقين من السفر، والصبر على جرائم بعض المتورطين فى الانكشاف الأمنى وجرائم الترويع وإثارة الذعر وقيادة الثورة المضادة، واختيار بعض ذيول النخبة الحاكمة السابقة لتصدُّر المشهد فى المرحلة الراهنة، وترك الرئيس وعائلته بلا محاكمة رغم هول ما تتكشف عنه الوقائع من إفراط فى الفساد والإفساد.
ومن هنا أيضاً يمكن فهم الكثير مما حدث من تجاوزات تجاه الجيش، سواء فى هتافات أو لافتات أو كتابات، أو فى أسئلة هائمة مخنوقة تتداولها ألسنة وقلوب حائرة ومهمومة.
لن تسمح «ثورة النور» لأعدائها بالانقضاض عليها وتفريغها من مضمونها وسحبها إلى الوراء، كما لن تسمح لغاسلى الأيدى من أتباع النظام السابق وأذنابه بركوب موجتها والمزايدة عليها، ولن تسمح لمدعى التدين من المتأسلمين بتحويلها إلى مسخ طائفى شكلانى ارتدادى، كما لن تسمح لصانعى الفتن بإشعال فتيل بينها وبين حاميها وحارسها وضامنها.. الجيش.
سيُتِم الجيش مهمته المقدرة على أكمل وجه، لأن عقيدته الوطنية، وتاريخه العريق، وثقة المصريين به لا توفر له خياراً آخر، ولأن الثورة ستظل توفر له الذرائع، بالحشد والإصرار والإلحاح الواعى المهذب، لكى يساعدها فى بلوغ أهدافها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق