السبت، 2 أبريل 2011

هل يصبح الجيش عبئا على الثوره ؟

أخشى ان تفلت من أيدينا اللحظة التاريخية الرائعة التي تعيشها مصر هذه الأيام، فنفوِّت فرصة لا تعوض لاستدعاء الحلم الى أرض الواقع، ويصبح الجيش عبئا على الثورة ليس عونا لها.
(1)في الأسبوع الماضي تلقى مدير فرع أحد المصارف في مصر الجديدة اتصالا هاتفيا من سيدة أبلغته فيه بأن في حسابها الشخصي أربعة آلاف دولار أمريكي وترغب في تحويلها الى جنيهات مصرية،

أثار الطلب دهشة الرجل الذي كان يعرفها جيدا، فقال لها ان كثيرين من الظروف الراهنة يحولون مدخراتهم من الجنيه المصري الى الدولار تحسبا للطوارئ.
ولكنها ردت عليه قائلة انها لهذا السبب تحديدا تريد ان تفعل العكس.اذ تريد ان تقوي الجنيه المصري ولا تضعفه.فوجئ الرجل بما سمعه فلم يتمالك نفسه، وجفف دمعة سقطت من احدى عينيه.
تلك واحدة من القصص الكثيرة التي صرنا نسمع عنها هذه الأيام، في سياق التدليل على ان ثمة روحا جديدة أصبحت تسري بين المصريين بعد الثورة، أيقظت فيهم ما كان كامنا أو خامدا من مشاعر الانتماء للوطن والاعتزاز به،

والذين أنصتوا للغة المصريين واهتموا برصد سلوكهم منذ قامت الثورة يدركون ان ثمة تحولا مثيرا في ذلك السلوك تبدى فيما لا حصر له من الشواهد والوقائع، التي تبعث برسالة خلاصتها ان المصريين أدركوا ان الثورة ردت اليهم وطنهم من خاطفيه، وانه صار وديعة يتعين عليهم ان يحتشدوا للحفاظ عليها والدفاع عنها بكل السبل.
قبل أيام تلقيت على هاتفي المحمول رسالة ممن لا أعرف هذا نصها:
من اليوم هذه بلدك انت.لا تلق القمامة في أي مكان.لا تتجاوز اشارة المرور.لا تدفع رشوة لكائن من كان.لا تلجأ الى تزوير أي محرر.لا تسكت على تقصير تجده في أي مكان.وفي ختام الرسالة دعوة الى تعميمها على أوسع نطاق ممكن.
لم أكن وحدي الذي تلقيت الرسالة، لأنني صادفت كثيرين استقبلوها وتحمسوا لها.كما أني صرت أتلقى اتصالات من أناس لا أعرفهم يسألونني عما يمكن ان يفعلوه لأجل البلد،
وسمعت عن مناقشات جارية بين مجموعات من الشباب في القاهرة والاسكندرية والسويس تدور حول كيفية المساهمة في تغيير الواقع وعلاج مظاهر التردي فيه.

وبعث اليّ آخرون بأوراق تحدثت عن استراتيجيات المستقبل وخيارات النهوض به.ولست أشك في ان ما حدث معي تكرر مع غيري ممن هم أهم وأخبر مني.
ما أريد ان أقوله ان ثورة الشعب على النظام حين استدعت المجتمع وردت اليه روحه المغيبة، فانها أطلقت في ذات الوقت ثورة في التوقعات.كأن الجماهير التي غيبت طويلا أصبحت متلهفة على تعويض ما فاتها وراغبة في اسراع الخطى صوب تحقيق أحلامها، وهو ما يبعث على التفاؤل والثقة لا ريب، لكنه يفتح الأبواب للقلق أيضا - سأقول لك لماذا.

(2)
شواهد الواقع تدل على ان ثمة مسافة ملحوظة بين التوقعات والممارسات.ذلك ان الثورة في مفهومها المبسط تعني ازاحة نظام وطي صفحته.واقامة نظام جديد مختلف عنه.الا ان ما حدث في مصر حتى الآن ليس كذلك بالضبط.

وعند الحد الأدنى فان القائمين على أمر البلد بعد نجاح الثورة تعاملوا مع ما جرى من منظور مختلف، حيث لم ينطلقوا من فكرة قطع الصلة بالنظام السابق واقامة نظام جديد مكانه.

آية ذلك ان رئيس الحكومة وثلاثة من الوزراء المرفوضين شعبيا يشكلون امتدادا للنظام السابق.وكذلك كل المحافظين ورؤساء الجامعات والقيادات الاعلامية والأمنية.

وهو ما يعني أننا فيما خص السلطة صرنا بصدد صورة معدلة للنظام القديم.كما أنه يعني ان الوضع المستجد لا يعد تجسيدا حقيقيا لفكرة «الثورة»، وأن اطلاق ذلك الوصف عليها هو من قبيل التعبير المجازي أو الحماسي.الأمر الذي يضعها في سياق ثورات أخرى جرى الحديث عنها، مثل ثورة المعلومات والثروة الادارية أو الزراعية..الخ.

كأن الملايين التي خرجت معلنة رفضها لنظام ما قبل 25 يناير، وكذلك مئات الشهداء ونظراؤهم الذين اختطفوا وعذبوا أو اختفوا، غير الآلاف الذين تعرضوا للاصابات والعاهات كانت هذه التضحيات كلها قدمت لكي تكتب بالدم شهادة ترميم النظام السابق، وادخال بعض التعديلات على شخوصه وسياساته.
هذا الاختلاف في قراءة ما جرى في 25 يناير (رئيس الحكومة وصفه بأنه حركة وليس ثورة) أحدث فجوة بين التوقعات والممارسات.وبدا ان سقف الأولى أعلى بكثير من الثانية.ذلك أننا يجب ان نعترف بأن سقف التوقعات كان عاليا.لأن الاحساس بالمهانة والظلم كان كبيرا، الأمر الذي جعل شوق الناس شديدا للتخلص من كل ما هو صلة بذلك الماضي الكئيب، وحين سقط رأس النظام تصور الناس ان بقية الأركان المحمولة عليه سقطت بدورها.وظنوا أنهم أوشكوا ان يلمسوا حلمهم بأيديهم ويرونه قائما على الأرض.
من ناحية أخرى، فان القادة العسكريين وجدوا أنفسهم بصدد حمل ثقيل وتركة تنوء بحملها الجبال.وفوجئوا بتراكمات ثلاثين عاما من الجمود السياسي والفساد الاقتصادي قد وضعت بين أيديهم.ناهيك عما لا نراه من ضغوط خارجية، وما لا نعرفه من التزامات وتعهدات قدمها السابقون للأبعدين والأقربين.

واذا أضفنا الى ما سبق ان أولئك العسكريين لم يكونوا طرفا في اللعبة السياسية، وأن تحملهم للمسؤولية لم تمض عليه سوى أسابيع محدودة، فستدرك أنهم في موقف لا يحسدون عليه.
هذه الخلفية تسوغ لنا ان نقول ان ارتفاع سقف توقعات الجماهير له ما يبرره، وأن ثمة أسبابا ان تساق لتفهم موقف القادة العسكريين واعذارهم.لكن ذلك لا ينفي حقيقة وجود الفجوة بين التطلعات والممارسات.
(3)اذا جاز لنا ان نلخص ما سبق فسنقول ان ثمة سببا جوهريا للفجوة الراهنة يتمثل في الاختلاف في قراءة الحدث الكبير،
وهل هو ثورة على النظام الذي سبق ذلك التاريخ، تؤدي الى طي صفحته،
أم أنه ترميم لذلك النظام من شأنه اسقاط رأسه وادخال بعض التعديلات على جسمه.

الى جانب هذه النقطة المفصلية فهناك عناصر أخرى فرعية تتمثل في تراكم المشاكل وتعددها وفي قصر الفترة الزمنية وخبرة القادة العسكريين والتزامات مصر تجاه الأطراف الخارجية خصوصا الولايات المتحدة واسرائيل..الخ.
هذه الخلفية تستدعي السؤال التالي:
ازاء الاختلاف في قراءة الحدث الكبير، كيف يمكن الترجيح بين الكفتين، كفة بناء نظام جديد ينطلق من كونها ثورة حقيقية، أم ترميم النظام القديم بما يقرب الحدث من الثورة الادارية؟
لا نستطيع ان نجيب عن السؤال قبل ان نتفق على تحديد من الذي صنع الثورة ودفع ثمنها، هل هو الجيش الذي قادها انتصارا للشعب، أم أنه الشعب الذي فجرها وتدخل فيها الجيش تضامنا مع الشعب؟

ان غاية مرادنا في تحرير هذه النقطة ان نتعرف على طبيعة الأدوار، وبالتالي حدود وحقوق كل طرف، بما يسمح لنا بأن نحسم عملية الترجيح بين الكفتين.
وهي عملية ليست صعبة لأن وقائع الحدث الفريد تمت تحت أعين الجميع في مصر وفي العالم أجمع.

من ثم فليس هناك خلاف على ان الشعب هو الذي تقدم الصف حين قام بالمغامرة ودفع الثمن، وأن الجيش تدخل لاحقا وأدى واجبه الوطني في الدفاع عن الشعب.

ان شئت فقل ان الشعب هو الذي صنع الثورة وان الجيش هو الذي تولي حراستها.وذلك الدور العظيم الذي قام به الشعب هو المفاجأة الكبرى، وهو الذي أضفى على الثورة فرادتها وأدخلها التاريخ من أوسع أبوابه، اذ العكس هو المألوف، حيث اعتدنا على ان يتولى الجيش قيادة الثورة، ثم يستدعي بعد ذلك المجتمع لكي يلحق به.
في ضوء هذا التحليل يصح لنا ان نتساءل:
اذا أعلن الشعب أنه يريد اسقاط النظام ودعا الى القطيعة معه بعد سقوطه، ومن ثم أرادها ثورة حقيقية تنقل البلد من عهد الى آخر،
واذا جاء الجيش وسماها ثورة أيضا، لكنه أرادها امتدادا محسنا لنظام مبارك، فالى أي طرف ننحاز؟
ردي المباشر ان الشعب هو صاحب الثورة، وان الجيش الذي أعلن تضامنه مع الشعب ينبغي ان يواصل أداء واجب حمايته، من خلال الاصغاء الى مطالبه التي اعترف بمشروعيتها منذ اللحظة الأولى لتحركه..

واذا ما حدثت الفجوة بين مطلب الشعب وبين موقف الجيش، الذي يرعى الحكومة، فان ذلك قد يحمل على محمل الحيرة والارتباك والتقصير في مرحلة.

أما اذا استمرت الفجوة أو اتسعت، فلن نجد لذلك تفسيرا سوى ان الجيش تراجع عن موقفه، وبدل ان يكون رافعا وحاميا للثورة، فانه يغدو عائقا أمام تحقيق أهدافها.وهو ظن أرجو ان يخيب وأن تكذبه الأيام المقبلة.
(4)في هذا السياق لا أخفي مخاوف لا تستند فقط الى تحليل لمعطيات الواقع وتقدير احتمالاته، وانما لا أستبعد تأثري أيضا بما هو كامن ومخزون في الذاكرة التاريخية، التي تحتل فيها فكرة «الطغيان الفرعوني» موقعا بارزا.

ولست صاحب الفكرة أو المصطلح، التي عني بتحقيقها الدكتور جمال حمدان، عالم الجغرافيا السياسية المبرر، في الجزء الثاني من مؤلفه الموسوعي «شخصية مصر».اذ ذهب الى ان مصر بطبيعتها بيئة صانعة للفراعنة.ذلك أنها كدولة زراعية تعتمد اعتمادا كليا على فيضان النيل.
ولأن الفرعون كان مالك الأرض، وهو الذي يتحكم في توزيع مياهه التي هي شريان الحياة، فقد اعتبر المصريون القدماء الفرعون واهب الحياة والموت.حتى صارت مصر في حقيقة الأمر «ضيعة الحاكم» والتعبير للدكتور حمدان الذي شرحه على الوجه التالي:

ان الطغيان الفرعوني نتيجة حتمية للدولة المركزية، وكانت الدولة المركزية ضرورة حتمية للبيئة الفيضية.وكما كان لهذه المعادلة مزاياها الواضحة، فقد كان لها عيوبها الأوضح.

اذ كانت مصر أول وحدة سياسية أو أول دولة موحدة في التاريخ، لكنها أيضا صارت بها على الأرجح أول طغيان في الأرض وأقدم وأعرق حكومة مركزية في العالم.بالتالي فانها أصبحت تمثل أقدم وأعرض استبداد أيضا..

فقد دفع المصري منذ البداية ثمن وحدته السياسية المبكرة من حريته السياسية.واشترى الأمن الاجتماعي بالحرية الاجتماعية.

وفي النتيجة أصبحت العلاقة عكسية بين المواطن والدولة، فتضاءل وزن الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم.وكلما كبرت الحكومة صغر الشعب.
اقتبس نصا عن نصيحة وجهها الملك خيتي لابنه مر يكارع (حوالي 2000 سنة قبل الميلاد) قال فيه:

«اذا وجدت في المدينة رجلا خطرا يتكلم أكثر من اللازم ومثيرا للاضطراب، فاقض عليه واقتله وأمح اسمه وأزل جنسه وذكراه وكذلك أنصاره الذين يحبونه..فان رجلا يتكلم أكثر من اللازم لهو كارثة على المدينة».

وخلص الدكتور حمدان من ذلك الى أنه منذ ذلك الأمد البعيد فان المصريين كانوا مطالبين بالصمت.وهي قيمة فسرها بعض الباحثين بحسبانها دعوة الى الهدوء والسلبية والسكون، والى الخضوع والمذلة والانكسار.
لست واثقا من صحة ذلك التحليل، لاقتناعي بأن الخبرة المصرية على مدار التاريخ يتعذر اختزالها في دور البيئة الفيضية في صناعة التاريخ، لكني لا أخفي ان الخوف من هاجس صناعة الفراعنة يلح عليّ طول الوقت.

محمد مدحت عمار
مدير مدونة جيل النصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق